هل الإدراك محصلة لنشاط العقل أم تصور لنظام الأشياء؟
- المقدمـــة:
إن الإنسان كائن حي، يعيش في وسط طبيعي وآخر اجتماعي لنا فإن حياته تقوم على مدى قدرته على التكيف مع هذا الوسط، ولأنه كائن عاقل فإن عملية التكيف هذه لا تقتصر على استعداده الحسي مثلما هو الشأن بالنسبة للحيوان بل تتعداه إلى مجموعة الاستعدادات العقلية التي زوده بها الله، ومن هذه الاستعدادات عملية الإدراك، الإدراك عملية عقلية معقدة، تقوم بتأويل الإحساسات، وتحويلها إلى معرفة، يعرفه لالاند Lalande، "هو الفعل الذي ينظم به الفرد إحساساته الحاضرة مباشرة ويفسرها ويكملها بصور وذكريات ويبعد عنها بقدر الإمكان الأبعاد الانفعالية أو الحركي مقابلا نفسه شيء يراه بصورة عفوية متميزا عنه وواقعيا ومعروفا لديه في الآونة الراهنة".
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو هل الإدراك يتحدد بفاعلية العقل أم ببنية الموضوع؟ أي هل هو نتيجة لمحصلة النشاط العقلي أم نتيجة لتصور نظام الأشياء؟
- التحلــيل:
ترى النظرية الذهنية أن الإدراك ليس سوى محصلة لنشاط العقل وفاعليته وهو بهذا عمل عقلي محض وليس مجرد انطباع حسي.
إن العقليون يميزون بين الإحساس والإدراك من حيث طبيعة كل منهما ومن حيث قيمة المعرفة المتأتية من كليهما، فرغم أن الإحساس شرط أولي وضروري للإدراك فإن الإدراك لا يتم به بل يتم بواسطة أحكام عقلية تضفي على الشيء، صفاته وكيفياته الحسية، وبهذا فإن العقل ليس مرآة عاكسة لعالم مستقل بذاته بل هو المكون الأصلي لهذا العالم وهذا لكونه الأداة الوحيدة التي نتعرف بواسطتها على الوجود.
وأهم الأدلة التي تؤكد هذا "الكوجيتو الديكارتي " حيث يعمد ديكارت إلى وضع العقل كمبدأ للحكم على الوجود من خلال البديهية القائلة "أنا أفكر إذن أنا موجود" أي أن إدراك الوجود الذاتي والموضوعي لازم عن الفكر. كما يرى وليام جيمس أن الطفل يحس والراشد يدرك، فالطفل قد يرى ما يراه الراشد ومع ذلك فهو لا يدرك ما يدركه، وقد ذهب بركلي إلى أن تقدير مسافة الأشياء لا يتم عن طريق الإحساس بل عن طريق التجربة لأنه ليس كيفية حسية بل صورة ذهنية، لذلك نجد الطفل الصغير عندما يرى القمر يمد يده إليه قصد الإمساك به، الأمر الذي يدل على ارتباط فكرة المسافة بالنضج العقلي، ثم جاءت أعمال الجرّاح الانجليزي Cheselden بعد بركلي ليثبت صحة رأيه حيث أكد أن الأعمى في حالة استعادة البصر إثر عملية جراحية، لا تتوفر لديه أية فكرة عن المسافة البصرية، فكل الأشياء البعيدة، والقريبة بالنسبة إليه تبدو وكأنها موجودة في العين بل في الذهن.
ثم يضيف آلان، أن الإدراك هو خاصية لنشاط العقل، فنحن لا ندرك الأشياء كما تعطيها الحواس بل كما يحكم عليها العقل، فالمكعب مثلا نرى منه 03 سطوح بدل الستة، ونرى منه تسعة أضلاع بدل الاثنا عشر ورغم ذلك فنحن ندركه مكعبا.
نقـــد: إذا كان صحيح أن العقل يلعب دور كبير في عملية الإدراك فإنه لا يبدع من العدم بل ينطلق من أشياء سابقة وضعتها التجربة الحسية فيه وهذا ما تؤكد التجارب العلمية التي ترى بأن للعقل القدرة على التفسير وليس له القدرة على الخلق، فالعقل يركب الصورة انطلاقا من العناصر المتضمنة مسبقا في الخبرة الحسية وعلى هذا فإن المعاني التي نكونها عن الأشياء هي حصيلة سلسلة من التجريدات والتعميمات وليست فطرية في العقل.
هذا بالإضافة إلى أن النظرية العقلية تهمل كذلك أثر العوامل الموضوعية في عملية الإدراك.
وهذا ما تبنى عليه المدرسة الجشطالتية عملية الإدراك، فهي ترى أنه ليس تابعا للعقل بل تابعا لبنية الموضوع، أي أن للأشياء صور موضوعية مستقلة عن الوعي، تفرض ذاتها في شكل إدراكي مميز وأن المكان ما هو إلا بنية أو صيغة تنظم وفقها الأشياء، وبهذا فإن الصورة أو الصيغة الكلية التي تكون عليها الأشياء هي التي تحدد إدراكنا، فيكون الإدراك واضحا صحيحا إذا توفرت في الصورة من حيث هي موضوع عوامل محددة يسميها الجشطالت بعوامل تنظيم المجال الإدراكي وعلى رأسها عامل الشكل والأرضية، فهو عامل يُمكِّن العقل من التمييز بين الأشياء اعتمادا على بروزها ضمن شكل معين دون التركيز على الخلفية التي تحملها فيكون الإدراك أقوى بقدر ما يكون الشكل بارزا مثل إدراك السفينة في عرض البحر والطائرة في السماء والنقطة السوداء على أرضية بيضاء ثم تأتي بعد ذلك عوامل أخرى هي عامل الوضوح والتسلسل والتقارب والتشابه والاختلاف وعامل الإغلاق وغيرها.
نقـــد: لقد ساهمت هذه النظرية كثيرا في تطوير علم النفس المعاصر حينما أبرزت دور العوامل الموضوعية في العمليات النفسية إلا أنها أهملت العوامل الذاتية التي لا تقل أهمية ما دام الإدراك هو قبل كل شيء استجابة الفرد بكامله لموقف ما.
- تركيــب:
لقد حاولت النظرية الظواهرية أن تقدم تصورا جامعا مانعا لماهية الإدراك حيث رفضت ربطه بالذات وحدها، عندما انتقدت كل من الحسيين والعقليين على أساس أن الإدراك ليس مجرد انطباع حسي ولا هو عمل عقلي محض كما رفضت أن يكون مرتبط بالموضوع وحده رغم تأثرها بالنظرية الجشطالتية، فالإدراك حسب الفينومينولوجيين يحدث عن طريق الشعور بالشيء فهو الذي يبني وينظم معتمدا في ذلك على المظهر الخارجي للشيء والشعور يتوسط الذات المدركة والموضوع المدرك، ومادام الشعور متغير فإن الإدراك نفسه متغير في حين أن الأشياء ثابتة ولها خصائصها سواءا كنا مدركين لها أم لا، فإدراك الأسد داخل القفص هو غير إدراكه خارج القفص لأن الشعور به يختلف من موقف إلى آخر وبالتالي يختلف معه الإدراك.
ومن جهة أخرى تؤكد النظرية العضوية وعلى رأسها ويرنر-وبنر أن الإدراك لا يرجع إلى الذات وحدها ولا إلى الموضوع وحده بل هو ناتج عن تظافر جميع المؤثرات الحسية التي يستقبلها الفرد في لحظة ما سواء، صدرت هذه المؤثرات عن الذات المدركة أم عن الموضوع المدرك، وبهذا فإن الإدراك يتم عند تطابق الذات مع الموضوع وأي تغيير لأحدهما ينتج عنه فقدان التوازن في العلاقة بين الذات والموضوع فيصعب الإدراك أو يتعذر.
- الخاتمــة:
إن تضارب النظريات واختلافها حول طبيعة الإدراك إن دل على شيء فهو يدل على مدى تعقد هذه العملية وفي الأخير نستنتج بأن الإدراك عملية عقلية معقدة ولا يمكن ربطها وإرجاعها لفاعلية العقل وحدها كما لا يمكن إرجاعها لبنية الموضوع وحده بل هي تتحدد بهما معا وفي آن واحد، أي أنها تحدث نتيجة نضج القدرات العقلية من جهة وتميز الموضوع في بنيته الخارجية.