هل من الضروري مراعاة المطالب الأخلاقية في الممارسة السياسية ؟
- المقدمة:
إذا كانت الدولة تنظيم اجتماعي قائم على السياسة، له أغراض نفعية وهي تنظيم الحياة الاجتماعية عن طريق سلطة داخلية تمارس الحكم. فهل هذه الممارسة تستقيم من غير أخلاق؟.
تضاربت الآراء حول هذه الإشكالية، إذ ذهب بعض الفلاسفة إلى ضرورة مراعاة المطالب الأخلاقية كشرط للممارسة السياسية في حين ذهب البعض الآخر إلى ضرورة الاستفتاء عنها. فما هي حجج كل منهما؟ وأيهما على حق؟
- التحليـل:
يرى بعض المفكرين أن الدولة في غنى عن الأخلاق. فالممارسة السياسية لا تطابق الأخلاق إذ لا وجود لعمل سياسي نظيف. كما أن الحاكم المقيد بالأخلاق ليس بسياسي ناجح. فالسياسي يجب أن يكون ذئبا أمام الذئاب فإن لم يكن ذئبا أكلته الذئاب.
ونلاحظ هذا في الأنظمة الفردية التي سادت قديما حيث أنها لم تعر أدنى اهتمام للجانب الأخلاقي بل كانت قائمة على القوة. ويتضح ذلك في نظرية العقد الاجتماعي عند هوبز-Hobbes في وصفه كيفية الخروج من الحالة الطبيعية إلى الحالة السياسية. وفي نظرية القوة والغلبة عند ابن خلدون في وصفه لكيفية قيام الدولة وسقوطها.
ولعل أكثر من عبّر عن هذا الاتجاه وهو المفكر الإيطالي ميكيا فيلي Machiavel-في كتابه "الأمير" فهو يعتبر أن القوة المحركة للتاريخ هي المصلحة المادية والسلطة وفي سبيل ذلك تجوز أية وسيلة. فالغاية تبرر الوسيلة والمهم هو النجاح وليست الوسيلة لأنه يرى أن فساد السياسة والعمل السياسي وانهيار الدولة، يرجع إلى تدخل القيم الأخلاقية والدينية. وفكرته هذه يصل إليها بناءا على أن الانسان شرير بطبعه فهو ذئب لأخيه الإنسان، ومنه فإن القوانين الوضعية هي أفضل وسيلة للحد من أنانيته وميله إلى النزاع والتملك والسلطة.
ولقد كان لفكره هذا امتداد في القرون التي تلته فقد تأثر به موسو لوني وذهب إلى أبعد منه (الفاشية في إيطاليا).
- نـقد: لكن التاريخ يشهد على أن الأنظمة التي قامت على القوة واللَّاأخلاق كان مآلها الفشل والزوال، ولعل أقرب مثال على هذا ما يسمى بدول الربيع العربي حيث نلاحظ كيف أن الشعوب أطاحت بهذه الأنظمة، لأن العنف لا يولد إلا العنف في النهاية.
في حين يذهب البعض الآخر من المفكرين إلى وجوب مراعاة الاخلاق في الممارسة السياسية، ولعل أكثر من عبّر عن هذا الموقف كانط، حيث تعتبر نظرته للسياسة امتدادا لاتجاه العقلي ومذهبه في الأخلاق. فهو يربط بينهما ربطا محكما. نظر لوظيفة الدولة نظرة إنسانية لا أثر فيها للعبودية والاستغلال وبيّن أن الغرض من وجودها هو أولا وقبل كل شيء مساعدة الفرد وتحسين ظروف حياته، وجعل من السياسة وسيلة لتحقيق سعادة الفرد وأكد في كتابه "مشروع السلام الدائم" أن الحياة السياسية يجب أن تقوم على العدل والمساواة. وكان لكتابه تأثيرا على الأنظمة الحاكمة في أوروبا حيث جاء في المادة الأولى من لائحة ميثاق حقوق الانسان "يولد الناس أحرارا متساوين في الكرامة والحقوق......." وكل من الحرية والمساواة والكرامة هي قيم أخلاقية يعمل المجتمع الدولي على تحقيقها.
وفي هذا الصدد يقول تولستوي -Tolstoï: "إن الشر لا يقتل الشر كما ان النار لا تطفئ النار".
كما يؤكد هذا، سلوك رواد النضال السلمي وعلى رأسهم المهتمان غاندي ضد الاستعمار الإنجليزي ونضال مارتن لوتر كينغ ضد العنصرية في و.م.أ فقد نجحا في إيقاظ ضمائر الناس وحفز هممهم عبر مختلف الوسائل المدنية والأخلاقية لمقاومة الاحتلال والاستبداد.
- نقد: إذا كان ما ذهب إليه أصحاب هذا الموقف هو غاية ما نأمله، فإنه من الناحية الواقعية ليس أمرا سهل التطبيق لأن الحياة الواقعية والعلاقات الاجتماعية ليست مبنية على المساندة وحدها بل وكذلك على التصارع مما لا يؤهل الانسان إلى الرقي إلى مرتبة الكمال التي يجب ان يعامل فيها الانسان على أنه غاية في ذاته.
- التركيب:
إذا كانت الحياة الاجتماعية لا تستقيم إلا في إطار دولة، فإن قيام الدولة هو الآخر يستند إلى السياسة التي تنظم الحياة الاجتماعية وتوفر مقتضيات الحياة السعيدة للناس. لكن الحياة الإنسانية تحتاج إلى أكثر من ذلك فهي تحتاج إلى الأخلاق كذلك. فالأخلاق في حد ذاتها هي قوانين عملية.
- الخـاتـمة:
إن التاريخ يثبت ان الشعوب تكون أشقى وأسوأ حال في ظل نظام يكون فيه الحاكم مستبد، يمارس سلطته عن طريق القوة والعنف، وتكون أسعد وأحسن حال في ظل نظام يكون فيه الحكام على قدر من الكفاءة والنزاهة، يعدلون بين الناس، ينظمون الحياة الاجتماعية على أساس قوانين (شرعية أو وضعية) تكون فوق الجميع، كما هو الحال في ظل الخلفاء الراشدين (أبو بكر وعمر) ونلاحظ أنه حتى الدول العلمانية الآن تتبنى الكثير من القواعد الأخلاقية في أنظمة حكمها لأن الأخلاق ما هي إلا قوانين عملية.