هـــل للـتاريـخ مـقعــدا بيـن العلـوم؟
الطريـقة: جدلية
- الـمقدمة:
يعد التاريخ علما من العلوم الإنسانية التي تتناول كموضوع لها الانسان من خلال الظواهر المتصلة به. يهتم التاريخ بالبعد الفردي والاجتماعي للإنسان. فهو يدرس الأحداث التاريخية للبشرية في تطورها ويحاول التعرف على القوانين التي تتحكم في سيرها. والإشكال المطروح هنا هو هل يمكن دراسة الحوادث التاريخية دراسة علمية موضوعية؟ أو بصيغة أخرى هل يمكن تطبيق المنهج التجريبي في دراسة الحادثة التاريخية مما يؤهل التاريخ للعلمانية أم أن هذا الأمر غير ممكن نظرا لخصوصيات الموضوع؟
- التحليل:
- يرى المعترضون على موضوعية التاريخ أن الحوادث التاريخية لا يمكن اخضاعها للدراسة العلمية الموضوعية وهذا بسبب خصائصها التي تمثل عائقا أما تطبيق الأساليب العلمية. فالحادثة التاريخية حادثة إنسانية لأن التاريخ هو ما يحدث للإنسان دون غيره وهي حادثة اجتماعية لأن صداها يعم مجتمع بأكمله والمؤرخ لا يهتم بالأفراد إلا من حيث ارتباطهم بالحادثة الاجتماعية وأكثر ما يحول دون الدراسة العلمية للحادثة التاريخية، أنها حادثة فريدة من نوعها لأنها ترتبط بمكان وزمان وظروف وملابسات خاصة بها مما يجعلها غير قابلة للتكرار، فيستحيل بذلك ملاحظتها كما يستحيل التجريب مما بجعل المؤرخ بعيدا على إمكانية وضع القوانين وتعميمها. لكن أكثر العوائق في التاريخ هو عائق الموضوعية، فطابع الذاتية يغلب على الدراسات التاريخية. ذلك أن المؤرخ يصعب عليه أن يقف من الحوادث التاريخية موقفه من الحوادث الطبيعية.
وفي الأخير فإن المعرفة العلمية تشترط إمكانية التنبؤ بالحوادث في المستقبل وهذه تقوم على الشروط الثابتة للظواهر أي على مبدأ الحتمية، لكن الظاهرة التاريخية بما أنها حادثة فريدة من نوعها فلا يمكن إذن للشروط أن تتكرر.
- النقد : مما لا شك فيه أن هذه الاعتراضات لها ما يبررها لكن أصحابها يبالغون في موقفهم المبني أساسا على مقارنة الظاهرة التاريخية بالظاهرة الطبيعية، والواقع أن هناك فرق بين الموضوعين. فالاختلاف في طبيعة الموضوع يستلزم بالضرورة الاختلاف في طبيعة المنهج. فالتاريخ يمكن أن يكون علما له منهجه الخاص الذي يتلاءم مع خصوصية موضوعه.
- وهذا ما انطلق منه المؤرخون حيث تمكنوا من تكييف في المنهج العلمي مع طبيعة الحادثة التاريخية ووضعوا قواعد خاصة للمنهج في التاريخ وهي:
* الملاحظـة: فإذا كانت الملاحظة المباشرة متعذرة فإن الملاحظة غير المباشرة ممكنة، حيث يتم جمع المصادر والوثائق. فبعد اختيار الموضوع يبدأ المؤرخ بجمع كل ما يمكن من مصادر ووثائق تخص الحادثة من قريب أو من بعبد باعتبارها آثارا شاهدة على الحادثة التاريخية وهي تشمل نوعين:
المصادر الإرادية: وهي التي تركها الانسان عمدا لتكون شاهدا عليه أو تكون عبرة لغيره منها المتاحف، مقابر الشهداء، مذكرات القادة، الخطب، لنصب التذكارية، المعاهدات وغيرها.
ومنها المصادر غير الإرادية: وهي التي أنتجها الإنسان وخلفها دون قصد وإنما لتحقيق جانب المنفعة مثل بقايا الأدوات المستعملة، بقايا المباني، الرسوم، الشِّعر المسرحيات وغيرها.
* مـرحلة الـتحليـل التـاريخي: فبعد انتهاء عملية الجمع تبدأ عملية الفحص والنظر والتثبيت التي تشمل نوعين من التحليل:
أ- التحليل أو النقد الخارجي حيث يتناول المؤرخ الوثيقة لكي يفحص مادتها ونظهرها الخارجي قبل أن ينسبها للعصر الذي يراد أن ينسب إليه. فإذا كانت الوثيقة خطية، يفحص مادة الورق المستعمل في كل عصر، نوع الحبر، أسلوب الكتابة بالإضافة إلى أنه لا يكتفي بنسخة واحدة.
ب- النقد الباطني ويهتم فيه بالمضمون، حيث يحاول تفسير المحتوى وتحديد معناه الحقيقي وهو هنا مدعو لأن يعيش روح العصر الذي يدرسه. وتعد لمقارنة هنا بديلا للتجربة بديلا للتجربة العلمية.
* مـرحلة الـتركيـب التاريخـي: حيث تنتهي عملية التحليل إلى نتائج جزئية مبعثرة يعمل المؤرخ على تركيبها حيث يقوم بترتيب الحوادث حسب زمن وقوعها وتبويبها ويحتاج المؤرخ في هذه المرحلة إلى جملة من الشروط حتى يتمكن من القيام بهذه العملية منها الثقافة الواسعة، والفضول العلمي والتفاني في البحث والشجاعة والصبر والأمانة العلمية والقدرات العقلية الفائقة، إذ لا بد أن يعيش الحدث التاريخي كما حدث وفي حالة اصطدامه بفجوات وثغرات تاريخية عليه ان يقوم بملئها بما يتناسب مع سير الأحداث.
- الـنقد: مما لا شك فيه أن علم التاريخ قد تجاوز الكثير من الصعوبات التي كانت تعوقه ومع هذا لا يجب أن نبالغ في التسليم بأن الدراسات التاريخية قد بلغت مستوى العلوم الطبيعية إذ الحادث التاريخي يظل حادثا لا يستوفي شروط العلم.
- يمكن القول إن التاريخ علم من نوع خاص، فهو ليس علم استنتاجي كالرياضيات ولا هو علم استقرائي كالفيزياء بل هو علم يبحث عن الوسائل العلمية التي تُمَكِّنه من فهم الماضي وتفسيره. وعلى هذا الأساس فإن القول بأن التاريخ لا يمكنه أن يكون علما لأن حوادثه تفتقر إلى شروط العلم أمر مبالغ فيه كما أن القول بأنه يمكن أن يصبح علما كالفيزياء مبالغ فيه كذلك. وعليه نقول ان الحوادث التاريخية لها طبيعتها الخاصة مما يستوجب أن يكون لها منهجا خاصا يتلاءم مع طبيعة الموضوع. فالعلمية في التاريخ تتوقف على مدى التزام المؤرخ بالشروط الأساسية للعلوم وخاصة الموضوعية.
- الخاتـمة:
مما سبق نستنتج أن الموضوعية في التاريخ وإن كانت ممكنة فإنها تظل موضوعية نسبية لا ترتقي إلى موضوعية العلوم الطبيعية، كما أن اليقين فيها لا يرتقي لليقين في علوم الطبيعة، لكن المؤرخون لم يتوقفوا عن المحاولات لتجاوز العقبات التي تحد من بلوغ الدقة والموضوعية في النتائج أي من بلوغ العلمية.