الحرية و المسؤولية
إذا كانت المسؤولية تثبت بثبوت شرطها وتُرفع برفعه-وشرطها هو الحرية-وكنا من ناحية أخرى نثبت المسؤولية ونحدِّدها ثم نبحث في وجود شرطها وهو الحرية فأيُّهما الشرط وأيُّهما المشروط؟ أو أيُّهما المبدأ: الحرية أم المسؤولية، بمعنى آخر هل يجب أن نطرح أوَّلا مشكلة الحرية أم مشكلة المسؤولية؟
إن المشكلة مزدوجة، تدعونا تارة إلى الانطلاق من الحرية كشرط لتأسيس المسؤولية وتدعونا تارة أخرى إلى اعتبار المسؤولية شرط يستوجب وجود الحرية.
التحدث عن المسؤولية يستوجب أولا التحدث عن الحرية
طرح الفلاسفة مشكل الحرية منذ العصر اليوناني وحتى عصرنا هذا، إلا أن هذا الطرح اكتسى طابعين مختلفين: طرح ميتافيزيقي وطرح واقعي. وقبل التطرق لهما نحاول تحديد مفهوم الحرية. ذهب الكثير من الفلاسفة إلى القول باستحالة تعريفها لأنها ليست ظاهرة يمكن ملاحظتها ودراستها واستخلاص خصائصها، بل هي ظاهرة متعلقة بالوجود الإنساني كله، لهذا ليس بوسعنا إلا أن نفترض لها تعريفا من باب يسمح لنا الدخول في معالجتها.
يعرفها لالاند/Lalande "هي تجاوز كل إكراه داخلي أو خارجي".
هو طرح فلسفي محض، يدور حول الاثبات والنفي. فقد طرح الفلاسفة السؤال حول وجودها من عدم وجودها ثم اختلفوا بين مثبت لها ونافي لها.
إن الحتمية قانون عام لِلْعَالَم، لا يترك مجالا للحرية المطلقة وبما أن الانسان جزء من هذا العالم فهو يخضع لهذا المبدأ كغيره من ظواهر الكون. والحتميات التي يخضع لها الانسان متعددة ومتنوعة منها:
مهما قيل في تفوق الانسان عن سائر المخلوقات، فهو ليس سوى جسم يسري عليه نظام القوانين الطبيعية كما يسري على جميع الكائنات فهو يخضع لقانون الجاذبية ويتأثر بالعوامل الطبيعية من حرارة وبرودة...الخ.
الانسان كائن بيولوجي، يخضع لقوانين الطبيعة الحية من وراثة، انتظام الأعضاء، بنية ووظيفة أو اختلالها – مرضا وصحة-كما يخضع لها في مراحل نموه الضرورية من تكونه إلى موته مرورا بمراحل متعاقبة.
إن أفعال الانسان مشروطة بشروط داخلية، تتمثل في مجموع الدوافع والحاجات المادية والمعنوية.
يرى واطسن Watson أن سلوك الانسان مرتبط بمنبهات طبيعية وأخرى شرطية وعلى هذا فإن سلوك الانسان ليس سوى استجابات انعكاسية تحدثها مثيرات معينة.
أما فرويد Freud فيرى أن سلوك الانسان نتيجة حتمية للنشاطات المكبوتة في اللّاشعور.
يولد الانسان في مجتمع وهذا المجتمع هو الذي يحدد سلوكه ويفرض عليه أن يسير وفق نظمه وقوانينه. وفي هذا يقول دور كايم:"الفرد دمية، يحرك خيوطها المجتمع".
يرى لمبروزو Lombrozo أن سلوك الانسان محدد بنموه الجنيني، ذلك أن السلوك الاجرامي وليد النقائص البيولوجية الوراثية.
صحيح أنه لا يمكن إنكار تأثير الحتميات بأنواعها في سلوك الانسان، لكن من جهة أخرى لا يمكن القول إن هذا التأثير مطلق، وأن الانسان يتأثر ولا يؤثر، بل الحقيقة أن للإنسان عقل وإرادة يوجِّهان سلوكه ويؤثر بهما في غيره.
ترى الجبرية وعلى رأسها جهم بن صفوان أن الله خلق الانسان وخلق أفعاله فلا حرية للفرد، فهو مسيّرا وليس مخيّر، ذلك أن القوة الإلهية هي التي تسيّره وتحدد مصيره تحديدا قبليا وأزليا. وبهذا فإن جميع أفعال الانسان مقدرة عليه، وإنَّما تنسب إليه على سبيل المجاز لا على سبيل الحقيقة ويظهر هذا في قولهم:" إنَّما يخلق الله فيه الأفعال على حسب ما يخلق في سائر الجمادات وينسب اليه الأفعال مجازا كما ينسب إلى الجمادات. فكما يقال أثمرت الشجرة... وطلعت الشمس كذلك يقال سافر محمد، نجح علي وأبدع عمرو. إن الله قدّر عليه أعمالا، لابد أن تصدر منه...".
وتبرر الجبرية موقفها هذا، معتمدة على بعض الآيات التي في ظاهرها جبر منها:
"قُلْ لَنْ يُصِيبُنَا إِلَّا مَا كَتَبَ الله لَنَا".
"كَذَلِكَ يَظِلُّ الله مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاء".
"قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ الله".
إن القول بالجبر فيه رفع للمسؤولية من جهة ودعوى للتكاسل من جهة أخرى.
يرى المعتزلة أن الحرية تكمن في نشاط الإرادة ويظهر ذلك في قولهم:" فالإنسان يحس من نفسه وقوع الفعل على حسب الدواعي والصوارف، فإذا أراد الحركة تحرك وإذا أراد السكون سكن ومن أنكر ذلك أنكر الضرورة".
أما ديكارت: فالحرية عنده حالة شعورية. والشعور بها دليل على وجودها، إنها تدرك بلا برهان لأنها خاصية من خصائص الذات الشاعرة.
وأما برغسون فيرى ان الحرية هي إحدى مسلمات الشعور والتي ندركها بالحدس؟ إنها ذلك الفعل الذي ينبع من الديمومة أو من الأنا العميق.
إن الضمير الخلقي يفرض وجودها وهذا ما يفسر مشروعية الواجب عند كانط ومشروعية التكليف عند المعتزلة.
اعتبر كانط الحرية مسلمة ضرورية لقيام الأخلاق لأن عدم التسليم بها معناه هدم الأساس الذي يستند إليه الواجب الأخلاقي وفي هذا يقول:" إذا كان يجب عليك فأنت تستطيع".
أمَّا في نظر المعتزلة فإن التكليف دليل على وجود الحرية. فالتكليف إذا كان موجها للعبد بإفعل ولا تفعل فيجب أن يكون الفاعل حرّاً مختارا وإن كان موجها إلى عاجز القدرة كان سفها باطلا.
"الثواب والعقاب" ذلك أن المكلف إذا كان مجبورا بطل الثواب والعقاب، فالإنسان مادام عاقلا فهو يميز بين الخير والشر، يلزم عن هذا أنه يختار، يلزم عن هذا أنه حر.
آيات متعدِّدة منها:" كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَة"، "مَنْ عَمَلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا"، " وَقُلْ الحَقّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفًرْ".
إذا الشعور بالحرية غير كاف لإثبات وجودها فقد يكون وهما ناتجا عن جهل الأسباب الحقيقية أما حرية التكليف فإنها تضع الحرية في زمن قبل الفعل وليس في الفعل.
كيف يمكن تحقيق التحرر وممارسته في الواقع؟
إذا كان الطرح الكلاسيكي قد جعل من الحرية والحتمية أمران متناقضان، فإن الطرح المعاصر جعل من الحتمية شرط للحرية. ذلك أن عملية التحرر لا تتحقق إلا إذا سلمنا بالحتمية التي تمكننا من معرفة وضبط الظاهرة ثم التنبؤ بها ثم التحكم فيها وأخيرا التحرر منها. وعلى هذا يكون التحرر هو الفعل الذي يمكننا من التكيُّف مع مختلف الحتميات التي تحد من حريتنا، طبيعيا ونفسيا واجتماعيا.
ويعتبر هيغل Hegel وماركس من رواد النزعة التحررية في الفلسفة الحديثة.
يرى هيغل أن العمل هو منبع الحرية ويبين ذلك في جدليته الشهيرة "جدلية السيد والعبد". فالعبد إستطاع بفصل عمله أن يتحرر من سيده . و السيد أصبح عبدا لعبده لأنه أهمل العمل.
أما ماركس Marx فيرى أن الحرية لا تتحقق إلَّا بالوعي والعمل وهو ما يساعد الانسان على تغيير أوضاعه القائمة على الاستغلال والطبقية لأن الحرية عنده لا تعطى بل تؤخذ بالقوة.
وآفاق التحرر أمام الانسان كثيرة:
يمكن للإنسان التحرر من العالم والظواهر الطبيعية بزيادة معرفة قوانينها الحتمية وابتكار إمكانيات لسيطرة عليها. وكل هذا إنما يتم بالعلم والتكنولوجيا فقد كان الطيران مثلا حلم لكن مع اكتشاف قانون الجاذبية وقانون الديناميكية الهوائية تجاوز الانسان تلك القيود وكان ذلك بداية التحررمن الحتمية الطبيعية.
و في هذا يقول ف.انجلز F.Engels :"كل تقدم حضاري خطوة نحو التحرر".
لقد ساعدت الدراسات النفسية الحديثة على معرفة وفهم وتفسير السلوك الإنساني وبالتالي ساعدت على تجاوز الكثير من النقائض، والأمراض النفسية خاصة مع اكتشاف التحليل النفسي.
إن المجتمع مليء بأنواع القهر والضغط وأنواع الاستلاب الاقتصادي والسياسي فعلى الانسان أن يتحرر من حتميات المجتمع وذلك بفهمها وتجاوزها إن كانت غير صالحة وذلك بتغييرها أو إصلاحها.
اشتقاقا: لفظ – المسؤولية – مشتق من فعل سأل، يسأل، مسألة. وهذا يعني إلحاق الاقتضاء بصاحب الفعل أو الحاق التبعة بالفاعل.
اصطلاحـا: المسؤولية هي: "تحمل الفرد نتائج افعاله من حيث هو فاعلها".
لا يتحمل الفرد تبعة افعاله إلا إذا توفر شرطان هما:
يجب ان يكون الفاعل عاقلا، ناضجا، لديه القدرة على التمييز بين الخير والشر، بين الصح والخطأ.
وعليه تسقط المسؤولية عن المجنون وعن الطفل، مصداقا لقول الرسول عليه الصلاة والسلام: "رفع القلم عن ثلاث: النائم حتى يستيقظ والصبي حتى يحتلم والمجنون حتى يعقل".
يكون الفاعل مسؤولا عن افعاله إذا كانت لديه القدرة على الاختيار بمعنى ان الفعل يكون نابع من ارادته الحرة ومنه تسقط مثلا المسؤولية عن الجندي لأن أفعاله هي تنفيذ لأوامر قادته.
إن الفلاسفة والمفكرين اختلفوا حول أساس المسؤولية والغاية من الجزاء. وقد تجسد هذا الاختلاف بين أصحاب النزعة العقلية وأصحاب النزعة الوضعية.
إن في الأخذ بالنظرية الوضعية وحدها دون العقلية، الحاق الضرر بالمجتمع لأن في سقوط المسؤولية والعقاب تبرير للجريمة وبالتالي تشجيع لها كما في الأخذ بالنظرية العقلية وحدها دون الوضعية ضرر يلحق بالمجرم، لأن العقاب هنا غير مشروع طالما أن شرط من شروط المسؤولية لم يتوفر وهو الحرية. ولأن الجريمة آفة خطيرة، تترك آثارا سلبية في الحياة النفسية والاجتماعية يجب الحد منها، ولا يكون ذلك إلا إذا كان العقاب موجود، لكن من جهة أخرى لا يجب أن يُنظر للعقاب كسلوك انتقامي بل كسلوك ردعي وقائي. وبالموازاة مع هذا يجب مراعاة الظروف والأسباب التي أدت إلى ارتكاب الجريمة والعمل على الحد منها بان يهتم المجتمع بالمجرم من خلال عوامل الاندماج الاجتماعي لهؤلاء المجرمين، لأن المسؤولية وإن كانت فردية من الناحية القانونية فإنها جماعية من الناحية الأخلاقية والدينية.
مما سبق نستنتج أن هاتين النظريتين متناقضتين: فالنظرية العقلية تنظر للجريمة دون المجرم أما النظرية الوضعية فهي تنظر للمجرم وتهمل الجريمة وبالتالي لا يمكن الأخذ بإحداهما دون الأخرى.