بيـن المـذهب العقلاني والمذهب الحسي
ما هو مصدر المعرفة؟ هل هو العقل أم الجربة؟
إذا كانت الفلسفة في العصر القديم (اليوناني) قد تناولت كموضوع لها الوجود من خلال مبحث الوجود (الأنطولوجيا) فإنها في العصر الحديث اتجهت وجهة مختلفة تماما عن سابقتها من خلال نظرية المعرفة، حيث أصبحت تهتم بالمعرفة في حد ذاتها من خلال عدة تساؤلات طرحتها. أهمها ما هو مصدر المعرفة؟
وقد اختلفت مواقف الفلاسفة من هذا الاشكال باختلاف انتماءاتهم المذهبية. ويعتبر القرن 17م و 18م عصر جدال بين العقليين والحسيين فما حقيقة مصدر المعرفة؟ هل هو العقل أم التجربة ؟
تقر النزعة العقلانية بان العقل هو الأصل والمصدر الوحيد لكل علم ومعرفة ويُعد ديكارت من أقطابه ومن بعده اسبينواز ومالبراش وترفض كليا أن تكون التجربة هي الأصل.
- لأن العقل هو ما يميز الانسان وليس الحواس.
- لأن العقل يحتضن الحقائق المحدوسة: وهي مبادئ العقل التي توفر المنطلق الأول للمعرفة.
- وهذه الحقائق كلية، صادقة وسابقة لكل تجربة ولا يتطرق إليها الشك ومنها يستنبط العقل النتائج التي تلزم عنها.
- هذه المبادئ ليست حكرا على المعرفة بل يستمد منها الأخلاقي والمرشد والانسان العادي مقاصدهم السلوكية.
- لأن العقل يكشف عن خداع الحواس.
- لأن العقل يبلغ الحقائق المطلقة.
- العقل ملكة ذهنية وحق مشاع وقوة فطرية.
- العقل يوافق الوحي.
- العقل يصمد أمام قوة الشك.
- العقل هو اليقين.
واعتمادا على هذه المسلمات يكون العقل معطى عالميا وهو أحسن وأضمن مصدر للبحث عن الحقيقة. وفي هذا يقول ديكارت:" العقل هو أعدل الأشياء توزعا بين الناس، إذ يعتقد كل فرد أنه أوتي منه الكفاية .... يتساوى كل الناس بالفطرة"
إن العقلانية تجمع بين الحدس والاستدلال. فالحدس يوفر الأرضية الصالحة للمعرفة، وهي أرضية لا يتطرق إليها الشك، أما الاستدلال فيتقدم فيها إلى اكتشاف ما ليس معلوم عن طريق آليات متنوعة.
لقد ساهم المذهب العقلي في تجاوز التراث القديم (المنطق الارسطي) الذي أعاق مسيرة البحث العلمي لقرون ومن جهة أخرى تجاوز هيمنة الكنيسة التي كانت تدّعي احتكار الحقيقة، رافضة التسليم والايمان بقدرة العقل على إدراكها. لكن هذه النزعة لاقت نقدا ورفضا من طرف الحسيين.
تقر النزعة الحسية التجريبية إن الإحساس والتجربة الحسية هما مصدر كل معارفنا. ومن أقطابها دافيد هيوم، جون لوك، جون استيوارت مل.
لهذا المذهب عدة حجج يمكن تصنيفها في اثنتين:
حجة نقـدية :ويتم فيها استبعاد المذهب العقلاني من أصوله حيث رفض الحسِّيون التسليم بالأفكار الفطرية والمبادئ العقلية وأنكروا الحدس بحجة :
- إن الانسان يولد وعقله صفحة بيضاء ثم يبدأ في اكتشاف العالم عن طريق الحواس.
- أننا نعرف الملموس قبل المجرد، فالمعرفة ترتقي من المشخص إلى المجرد وليس العكس.
- لا يمكن ان تكون المبادئ فطرية إذا كانت الالفاظ المكونة لها غير فطرية (لأن اللغة مكتسبة).
- ليس للعقل القدرة على الوصول إلى علم يقيني بالفطرة لأن الاحكام العقلية تتحدد بالزمان والمكان وبظروف العمل ومجال البحث كما تتحدد بتطور تقنيات الملاحظة والتجريب.
حجة تأسيـسية: ويتم بناء وتأسيس المذهب الحسي انطلاقا من التسليم بأن العلم في كل صوره يرتد إلى التجربة.
- إذ ليس في العقل شيء جديد إلا وقد سبق وجوده في الحس أولا.
- فاقد حاسة فاقد معرفة: فالأكمة مثلا ليس لديه فكرة الألوان.
- مفهوم السببية مستوحى من التجربة، ذلك أن التعود على مشاهدة تتالي الحوادث جعلنا نربط بينها ربطا سببيا.
- العلم في كل صوره يتسع باتساع تجارب الانسان. فالأفكار تتطور وتتسع مع مقدار ما يكتسبه من خبرات في حياتنا اليومية.
- الكثير من الأفكار رفضها العقل في البداية ثم قبلها في النهاية (اللّاحتمية) عند هايزنبارغ Heisenberg.
صحيح انه لا يمكن إنكار دور الإحساس والتجربة الحسية كمصدرين للمعرفة، غير أن حصر المعرفة فيهما أمر مبالغ فيه، فلو كانت التجربة هي المصدر الوحيد للمعرفة لكانت المعرفة في متناول كل انسان.
هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن هذه النظرية لا تفسر إمكانية ادراكنا ليعض الحقائق الميتافيزيقية.
ومؤسسه كانط Kant من خلال كتابه "نقد العقل الخالص" يقوم هذا المذهب بنقد المذهبين –العقلاني والحسي التجريبي-على أساس أن المعرفة لا هي عقلية محضة ولا هي حسية محضة، فهو يجمع بين العقل والحس.
يذهب كانط إلى التمييز بين الظواهر العقلية السابقة على كل تجربة والظواهر التي تكتسب بالتجربة. يعتبر الأولى ضرورية لإدراك الأشياء ومعرفتها. ويرى أن المعرفة لا تستقي من الادراكات الحسية وحدها ولا من العقل وحده، بل مرجعها الحس الذي ينقل للعقل صور المحسوسات فيضيف إليها علاقات زمانية أو مكانية ثم إلى المعاني الأولية في العقل وهي سابقة للتجربة. فالمعرفة اطارها عقلي ومضمونها حسي: فالمضمون تحدّده التجربة الحسية لكن الإطار يتحدد بالعقل. فالعالم يظهر في صورة الكثرة (أشتات) والعقل هو الذي يربط بين هذه الأشتات ويكوِّنُ منها شعورا فريدا أي فكرة واحدة.
وفي هذا السياق يضيف هيغل Hegel:"إن ما هو عقلي هو واقعي وما هو واقعي هو عقلي"
ومنه نقول إن الاختلاف الموجود بين المذهبين لا يسقط قيمة أحدهما على الأخر لأنهما ليسا متناقضين بل متعارضين فقط، وقد استطاعت الفلسفة النقدية تجاوز هذا الاعتراض وتشكيل نسق تركيبي نقدي يجمع النسقين العقلاني والتجريبي على حد سواء.