بيـن الـمذهـب البراغماتي والمـذهـب الـوجـودي
مــــا هـــو مـعـيـــار الــحقيــقــة ؟
ويمثله جون ديوي، بيرس، يسبرس، وليام جيمس.
ترى هذه النزعة أن مهمة الفلسفة هي أن تحل مشكلة الوجود الإنساني، فالمناظرات الفلسفية والجدل النظري والصراع الأيديولوجي لا يحسم مشكلة ولا يقدم حلا، ولا طائل منه ما لم يكن يعبّر عن مشاريع عملية قابلة لإنتاج آثار نافعة.
ومن هنا ذهب دعاتها إلى أن الفلسفة رافد من روافد الحضارة ولا بد أن نجعل منها دراسة حيوية، مرنة، لا تقبل الأفكار المجردة المطلقة، بل تبحث عن المشخص على اعتبار أن المعرفة أداة للعمل المنتج، فانصرفت من البحث في المبادئ والأوليات إلى البحث في النتائج والغايات، فأصبحت تربط صدق الفكرة بمدى منفعتها الواقعية ومن ثمة لم تعد الأفكار مطلوبة لذاتها وإنما تلتمس كوسائل لتحقيق أغراض في عالم الواقع.
- العبرة بالنتائج، فكل فكرة لا تحمل في طياتها مشروعا ناجحا، قابلا لإنتاج آثار عملية نفعية في الحياة تعد خرافة، شأنها في ذلك شأن الكلام الفارغ.
- العبرة بالنتائج الناجحة: ويتمثل هذا النجاح في الانسجام بين الواقع ورغبات الانسان.
- المرونة والمراجعة المستمرة: لأن الصدق، هو صدق بالنسبة للواقع الذي ليس متحجِّرًا ولا ثابتا بل متغيِّر، لذا وجب مراجعة الفروض وتجديد التجربة.
- الصدق مرتبط بالمنفعة: الهدف والمنفعة صفتان مترادفتان للفكرة (الفكرة الصادقة = الفكرة النافعة) وعلى حد قول وليام جيمس "أسمى الفكرة صادقة حين أبدأ بتحقيقها تحقيقا تجريبيا، فإذا ما انتهيت من التحقيق وتأكدت من سلامة الفكرة سميتها نافعة" ويضيف: "إن كل ما يؤدي إلى النجاح فهو حقيقي، وأن كل ما يعطينا أكبر قدر من الراحة وما هو صالح لأفكارنا ومفيد لنا بأي حال من الأحوال فهو حقيقة" أما بيرس فيقول:" إن الحقيقة تقاس بمعيار العمل المنتج، إن الفكرة خطة للعمل أو مشروع له وليست حقيقة في ذاتها".
لو اقتصرت النظرة العملية في تطبيقها في الميدان التجريبي لكانت صحيحة غير أن أصحابها أرادوها أن تشمل كل الميادين حتى الفلسفية والدينية، لذا زعموا أن النظرية الفلسفية الصحيحة هي التي تدخل الطمأنينة على أنفسنا. وفكرة الله نفسها تكون صحيحة بمقدار ما تزيله من مخاوفنا، وعندئذ لا تعود الحقيقة تابعة للعقل بل لمقتضيات الواقع، فتتعدد بذلك أنواع الحقائق تبعا لأنواع الوجود وبالتالي لا يعود هناك مقياس للصدق والكذب.
إذا المنفعة معيار ذاتي للحقيقة، لأن الحقيقة التي تؤكد نتائجها ومنافعها يتقبلها فرد ويعارضها آخر ما دامت المنافع متعارضة.
يمكن وصف الفلسفة الوجودية بأنها نوع من الفلسفات الذاتية، تهدف إلى الكشف عن الانسان ذاته من حيث أن له وجود خاص يعانيه معاناة مباشرة وترتبط بزمانه ومكانه وظروفه واحواله أو بعبارة أخرى الكشف عن الانسان باعتباره تجربة حية، سميت بالوجودية لأنها تعبر عن معاناة الانسان في الوجود وقد تصور كل من هيدجر و سَارتر الانسان في عزلة تامة بلا معين في حين وضعه آخرون في علاقة مباشرة مع الله أمثال: يسبرس و كيركغارد.
ترى الوجودية أن مقياس الحقيقة هو الانسان المشخص في وجوده لأنه هو الذي ينجز ماهيته لنفسه طالما أنه يوجد بدونها، فهو محكوم عليه بأن يختار مصيره، ولأنه محكوم عليه في نفس الوقت بأن يموت وجب ان يمارس هذه التجربة التي تجمع بين الحياة والموت وما ينتج عنهما من محن وقلق وألم ونقل وتحمل المسؤولية، ولأنه ليس ثمة شيء يمكن أن ينقذه من نفسه فعليه أن ينقذ نفسه بنفسه أي يختار مصيره بنفسه وعلى هذا تكون الحقيقة هي انجاز الماهية " ماهيته هو".
يرى سارتر أن الوجود الإنساني سابق على الماهية بخلاف الأشياء، ماهيتها متقدمة على وجودها. فالبذرة مثلا تنطوي على إمكانية الشجرة فقط (بذرة قمح ماهيتها قمح، أي أنها سوف تعطي قمحا ولا شيء آخر، أما الإنسان فماهيته لاحقة لوجوده ومن ثمة لا بد أن يكوِّن لنفسه ماهية، وما دام ليس هناك ما يعيِّن له سلوكه فهو حر في اختيار الماهية، فالإنسان هو ما صنع بنفسه وأراده لها وما اختاره لها.
تعد الوجودية ثورة على الفكر السابق لأنها تمكنت من توجيه الفكر إلى الوجود الإنساني والاهتمام بمشاعره وافعاله وتجاربه وصراعه مع الواقع ومع ذاته، لكنها تتناسى أن الانسان كائن اجتماعي قبل كل شيء وأن المجتمع هو الذي يصنع حقيقة الفرد بنسبة معينة.