النص الادبي الجديد : في الطبيعة والنفس الانسانية
النّص :
اعلم - أرشدنا الله وإياك - ,أّنا نشاهد هذا العالم بما فيه من المخلوقات كلها على هيئة من التركيب والإحكام لا تنقضي عجائبه في ذلك ولا تنتهي غاياته، وأبدأ من ذلك بالعالم المحسوس الجثماني ، و أولا عالم العناصر المشاهدة كيف تدراج صاعدا من الأرض إلى الماء ثم إلى الهواء ثم إلى النار متصلا بعضها ببعض...، والصاعد منها ألطف مما قبله إلى أن ينتهي إلى عالم الأفلاك وهو ألطف من الكل على طبقات اتصل بعضها ببعض على هيئة لا يدرك الحس منها إلا الحركات فقط، و بها يهتدي بعضهم إلى معرفة مقاديرها وأوضاعها، وما بعد ذلك من وجود الذوات التي لها هذه الآثار فيها. ثم انظر إلى عالم التكوين كيف ابتدأ من المعادن ثم النبات ثم الحيوان على هيئة بديعة من التدريج، آخر أفق المعادن متصل بأول أفق النبات مثل الحشائش، و ما لا بذر له، وآخر أفق النبات مثل النخل و الكرم متصل بأول أفق الحيوان مثل الحلزون والصدف، و لم يوجد لهما إلا قوة اللمس فقط، ومعنى الاتصال في هذه المكونات أن آخر أفق منها مستعد بالاستعداد الغريب لأن يصير أول أفق الذي بعده، و اتسع عالم الحيوان و تعددت أنواعه، و انتهى في تدريج التكوين إلى الإنسان صاحب الفكر و الروية. ثم إننا نجد في العوالم على اختلافها آثارا متنوعة : ففي عالم الحس آثار من حركات الأفلاك والعناصر، وفي عالم التكوين آثار من حركة النمو والإدراك، تشهد كلها بأن لها مؤثرا متباينا للأجسام، فهو روحاني ويتصل بالمكونات لوجود اتصال هذا العالم في وجودها، و ذلك هو النفس المركبة المحركة، ولابد فوقها من وجود آخر يعطيها قوى الإدراك والحركة، ويتصل بها أيضا، ويكون ذاته إدراكا صرفا وتعقلا محضا، وهو عالم الملائكة. فوجب من ذلك أن يكون للنفس استعداد للانسلاخ من البشرية إلى المَلكية لتصير بالفعل من جنس الملائكة وقتا من الأوقات في لمحة من اللمحات، فلها في الاتصال جهتا العلو و السفل : فهي متصلة بالبدن من أسفل منها ومكتسبة به المدارك الحسية التي تستند بها للحصول على التعقل بالفعل، ومتصلة من جهة الأعلى منها بأفق الملائكة ومكتسبة به المدارك العلمية والغيبية، فإن عالم الحوادث موجود في تعقلاتهم من غير زمان.
ثم إن هذه النفس الإنسانية غائبة عن العيان وآثارها ظاهرة في البدن، فكأنه وجميع أجزائه مجتمعة ومتفرقة ألات للنفس ولقواها، أما الفاعلية فالبطش باليد، والمشي بالرجل، والكلام باللسان والحركة الكلية بالبدن متدافعا .
وأما المدركة وإن كانت قوى الإدراك مرتبة ومترقية إلى القوة العليا منها ومن الفكرة التي يعبر عنها بالناطقة، فقوى الحس الظاهرة بآلاته من السمع والبصر وسائرها يرتقي إلى الباطن ، وأوله الحس المشترك، وهو قوة تدرك المحسوسات مبصرة ومسموعة وملموسة وغيرها في حالة واحدة، وبذلك فارقت قوة الحس الظاهر، لأن المحسوسات لا تزدحم عليها في الوقت الواحد، ثم يؤديه الحس المشترك إلى الخيال، وهي قوة تمثل الشيء المحسوس في النفس كما هو مجرد عن المواد الخارجة فقط .
أتعرف على صاحــــــــب الـنـــــــــص :
|
أثــــــــــــري رصيـــــــدي اللغـــــــــوي :
- في معاني الألفاظ :
الإحكام : أحكم الشيء والأمر أتقنه ، محض : خالص لا يخالطه شيء .
انسلاخ : تحول .
- في الحقل الدّلاليّ :
ابحث عن المفردات التي تنتمي إلى عالم الطبيعة كما وردت في النص .
- الأرض ، الماء ، الهواء ، النار ، المعادن ، النبات ، الحيوان ، الحشائش ، النخل ، الكرم ، الحلزون ، الصدف .
- لاحظ العلماء أن الأصناف النباتية والحيوانية لا تبقى على حالتها من تاريخ نشأتها إلى حين انقراضها . بيّن موقف الكاتب من هذه الملاحظة .
- يرى الكاتب أن عالم التكوين ابتدأ من المعادن ثم النبات ثم الحيوان على هيئة من التدرج .
- يرى الكاتب أن الأوصاف التي تميز الأنواع بعضها عن بعض لا تدوم على وتيرة واحدة ، بل تتطور تدريجيا ويؤدي ذلك إلى تكوين أنواع جديدة. استدل على ذلك من النص .
- يدل على ذلك قوله : آخر أفق المعادن متصل بأول أفق النبات مثل الحشائش ، وآخر أفق النبات مثل النخل والكرم متصل بأول أفق الحيوان مثل الحلزون والصدف...ومعنى الاتصال في هذه المكونات أن آخر أفق منها مستعد بالاستعداد الغريب لأن يصير أول الأفق الذي بعده .
- يعتقد الكاتب أن التطور لا ينحصر في الأنواع النباتية والحيوانية وحدها فهو يشمل النوع البشري أيضا . وضّح هذا الرأي معتمدا على النص .
- إن نظرية التكوين عند ابن خلدون تصنف الأنواع النباتية و الحيوانية و ترتقي بالإنسان باعتباره عاقلا مفكرا ، وتشير إلى أن خلق الإنسان قد مرّ بأطوار عن طريق النشوء والاشتقاق من نوع آخر .
- للنفس الإنسانية في هذا النص قوى عديدة و متنوعة . عدد مختلف تجلياتها .
- من قوى النفس البشرية الإدراك و الحركة ، و نحتاج إلى وجود آخر يعطيها قوى الإدراك والحركة لترقى إلى جنس الملائكة في وقت من الأوقات .
- ماذا الذي تطرّق إليه ابن خلدون في نصّه ؟
- تناول ابن خلدون نظرية التطور التدريجي في الطبيعة والنفس الإنسانية ، وقدّم أمثلة لفهمها ، و استعان بنمط من التعابير للوصول إلى مقصده و وصل إلى نتيجة و هي أن هذا التطور لا ينحصر في الأنواع النباتية و الحيوانية بل يشمل النوع البشري أيضا .
- و ما هي النتيجة التي توصل إليها ؟
- إلى أنّ النفس الإنسانية قادرة على الرقي إلى أعلى الدرجات بفضل ما ركب فيها من قوى عديدة ومتنوعة لتسمح لها بذلك .