التص الأدبي الاول : الجرح والأمل لزليخة السعودي
النّص :
كانت هناك في زاوية الشارع المهجورة، ترتجف من البرد و الخوف وأمعاؤها الفارغة تصرخ فـي شبه عواء لا يسمعه أحد سواها، وبين الفينة والأخرى يلسعها سوط يمتد من كلمة عابر يسال في برودة وبلاهة : ماذا تصنعين هنا ؟. فما له و ما لها لقد اعتادوا جميعا مثل هذه المناظر البائسة ... النّسـاء الواقفات في الزوايا مقرورات ... و الأطفال المتسولون بعد أن مات آباؤهم في الغابات أو تحت أنقاض القرى المخربة ... وتظل مكانها واقفة، كتمثال يتحدى الزمن، و كل عواصـف الطبيعـة ، و تتحـدث نظراتها الفارغة عن لا وعي يسكن ذاتها الخائفة. وعودتها الأيام التي قضتها في تلك المدينة علـى أن تترك الزاوية في منتصف النهار تماما وتخترق الشارع العريض متوجهة إلى المسجد الكبير لتتنـاول قطعة الخبز الذي تتغذى به ... ثم تعود إلى الزاوية حتى يحل الظلام فتغادر مكانها المفضل متوجهـة إلى جدار المسجد حيث تنام مع رفيقاتها على الأرض الباردة الموحلة كومات لحم يوشك أن يسري فيها العفن تحت الأسمال المتّسخة ... و تعرفت على بائسة مثلها لكنها اشد منها هذيانا وضجيجا ... فهـي مقعدة لا تغادر مكانها قط ولا تسكت عن إحداث جلبة كلما سنحت لها الفرصة ... تتكلّم مع كلّ عابر و مع الريح و الشجر ... مع الجدران ومع كل ما في الزقاق تتكلّم بلا انقطاع و مع هذا تمر لحظات تجد فيها نفسها، فتحكي فيها قصتها كلها و معها كلّ تاريخ القرية التي لفظتها ذات يوم مظلم ... تقص كل ذلك على "ياسمينة" التي لا تفهم عنها شيئا فهي تشرد مثلها عن واقعها الجريح ... و تهيم في سماء مظلمة ... وقصتك أنت ما هي ... فتصمت حائرة، كيف تستطيع قصها و هي لا تعرف شيئا عنها ... فتتردد في حيرة: لقد مات أحمد...قتلوه في فرنسا ... هذا كل ما تعرفه... من يكون أحمد ؟ و يتـنفّس الصبح و هي في متاهتها تفكّر وتسأل عن أحمد ... الخيط الوحيد الذي يعيد لها وعيها فـي غياهـب الظّلمات المتراكمة في صدرها تحجب عنها شعاع الشّمس المضيء ويمر المارة على جدار المتسولات فيلقون عليهن نظرة الحزن و الرثاء و يقول قائل : لقد امتلأت مدينتنا بالمجانين ... فما علّة ذلك ؟ و يتحول السؤال إلى محاورة جماعية تستعمل فيها كلّ حكمة الشّيوخ ... و تأتي النتيجة بعد بحث العشيات الطّوال في ظلال المسجد و في مقاعد الدكاكين و المقاهي بأن العلّة في الحرب ... الحرب التي هي الثّورة ضد الاستعمار ... قد خلقت من المآسي ما جعل العقول تفقد وعيها .. كانـت ياسمينة جميلة جمال الضحى في قريتها ...رائعة روعة النخيل الباسقة في ترابها. أحمد و هو فلاح قوي من أبناء عشيرتها، يحسن عمل كل شيء حتى الغناء و جاء شتاء قـاس أقفرت خلاله من كل شيء .. من النخيل ومن الماء و من الغذاء .. وأصبح من المستحيل أن يعـيش فيها أحد .. ورحل أحمد في من رحل إلى البلد الغريب الذي لا يعرفون عنه شيئا سوى الاسم: فرنسا.. كان يضحك في فرحة و هو يودعها و يحدق في عينيها الجميلتين قائلا : لن أمكث هناك طويلا. حالما أجمع ما يكفينا من المال سأعود لنعيش في المدينة مع طفلينا، فحياة القرية لا تليق بك. وانتظرت طيلة عامين عودة أحمد دون جدوى.. كبر خلالها الطفل والطفلة فأدخلتهما الكتاب لأن أحمد كان يرسل لها في كل شهر حوالة تعيش بها حياة مترفة أمام باقي القرية مـن جيـاع يـأكلون الحشائش مثل الأغنام .. وأخذت صلتها تنقطع بأحمد شيئا فشيئا مع قلة رسائله التي تجيئها عبر عوالم مجهولة لا تحاول حتى تصورها فأضواؤها تبهرها .. فتطلب من االله اللطف حتى لا يضيع أحمد هناك وراء البحر في تلك الدنيا التي تعدها مليئة بالخير بالنور و أن لا أحد فيها يعثر أو يجوع .. يقول أحمد أنهم يسكنون أكواخ القصدير وقد لا يجدونها فيبيتون على الأرصفة .. و حتى العمل الذي يعثرون عليه بعد تشرد طويل لا يمكن أن يعلمهم أية صنعة يرجعون بها في المستقبل إلـى أرضـهم فينتفعـون و ينفعون، لا شيء غير حمل الأثقال وحفر الطرق .. و المناجم الرهيبة. وأرسلت جوابات كثيرة لكنّها لم تعد تتلقى منه أي رد. حتى جاءتها ذات يوم رسالة قالوا لها أنها مـن أصحابه هناك في فرنسا .. تقول الرسالة الخطيرة أن أحمد أستشهد و هو يؤدي واجبـه فـي سـبيل الجزائر .. مات تحت التّعذيب بعد أن خلف تاريخاً مشرفاً يعرفه كلّ رفاقـه فـي الجبهـة، وهزتهـا الفاجعة.. و ما مرت أيام بعد سماعها للحادثة حتّى اشتعلت في القرية الآمنة على حين غرة معركة دامية.. و بعد ساعات أصبح كلّ شيء فيها يلتهب تحت سيل القنابل و النفط المحرق الذي ألقي على النخيل .. المثقلة أعرافه بالثمار التي تعب لأجلها وانتظرها كل ناس القرية المساكين .. وتمزق قلبها الجـريح و في جنون الخوف الذي تملكها لم تعد تعرف عن طفليها ولا عن أمها العجوز شيئا ، كان كل همها أن تخرج من الجحيم الفاغر فاه أمامها فجرت نحو الجبل جرت حتى سالت الدماء من قدميها ولمـا وصلت إلى القمة المشرفة على القرية كانت النيران ما تزال تلتهب ملتهمة الأخضر واليابس فيهـا .. وتلفتت حولها في هلع لتجد مجموعة من الأطفال و الكهول الذين استطاعوا النجاة مثلها .. وتذكرت فجأة ولديها البقية الباقية من أحمد .. فلطمت وجهها وأخبرها أحدهم أنه رآهما تحـت الأنقاض يحاولان الفرار بينما النار تسد عنهما الطريق بمزيد من الدخان والغبار. وتجسم لها المنظـر البشع، وألسنة النار تمتد إلى أبعد نقطة في القرية تأكل و تأكل دون توقف. ولم يطل الزمن بياسمينة حتى أشرقت الشمس ذات يوم رأت فيه نفسها بين الجموع من جديـد تتدفق عبر الساحة الحمراء.. الساحة التي روتها الدماء من قبل .. وتزينها الأعلام الخضراء اليـوم و نسيت نفسها وضياعها وطفليها .. والابتسامات تتسع فوق شفاه الأطفال وتسترسل عذبة رحيبـة فـي أنغامهم .. إنهم يهتفون لأحمد.. هي لا تعلم من يكون أحمد لكنها تجده.. تجده من جديد .. لقد عاد القتيل اليوم، عاد في أغنيات النصر في ابتسامات الأطفال، في عزم الرجال على بناء الغد الأفضل .. وركضت مرة أخرى مع الجموع في كل مكان .. وهتفت مع من يهتفون، كان تـرى كـل السواعد السمراء التي امتدت إلى العلا بالأعلام .. في كل العائدين ترى أحمد و هو يلوح مـن بعيـد بالعلم و يهتف للفجر.
أتعرف على صاحـب الـنـص :
|
تقديم النص :
- علل سبب التناول المتواتر للثورة الجزائرية و بشكل ملحوظ في الفن القصصي الجزائري .
- اذكر بعض القصص التي قرأتها ثمّ صنفها بحسب المثالية و الواقعية .
- لأنّها محطة بارزة و علامة فارقة في مسار الشعب الجزائري .
- الحريق لمحمد ديب ( واقعية ) , رصيف الأزهار لا يجيب لمالك حداد ( مثالية ) .
أثـري رصيـدي اللغـوي :
في معاني الألفاظ :
- مقرورات : جمع مقرورة و القر هو البرد .
- غياهب : جمع غيهب و هي الظلمة .
- البشع : من قبح منظره .
- تبهرها : تدهشها و تحيرها .
في الحقل الدّلالي :
- هات من النص ألفاظا تنتمي إلى حقل المعاناة .
- من ألفاظ التي تنتمي إلى حقل المعاناة : عواء - يلسعها - الخائفة - بائسة - متسوّلة - الحزن......
- ابحث مستعينا بمكتبة المؤسسة لمعرفة الدافع الأساسي إلى الهجرة أثناء الثورة و بعد الاستقلال .
- كان الدافع الأساسي إلى الهجرة أثناء الثورة ظروف الاحتلال و ما خلفته من مآس , أمّا بعد الاستقلال فقد كان الدافع البحث عن أسباب الرزق و حياة الرفاهية .
- استخرج من النص شخصية فاعلة و شخصية مفعولا بها وخصائصها ؟
- انتق من النص مقاطع وصفية تسيطر عليها الحركة ؟
- استخلص من النص أهم خصال المرأة السياسية و الاجتماعية و الثقافية .
- قارن بين شخصية " ياسمينة " و " أحمد " من حيث الهوية و الحالة و الخصائص .
- حدّد ملامح صورة المرأة الثانية كما وردت في النص , ماذا تستنتج ؟
- الشخصية الفاعلة في النص هي شخصية أحمد الذي تبنّى مبدأ التغيير و التضحية اللا متناهية في سبيل الوطن , أمّا الشّخصية المفعول بها فهي شخصية ياسمينة التي عاشت المأساة بكل تفاصيلها بعد رحيل زوجها وموت و لديها تحت الأنقاض .
- من المقاطع الوصفية التّي تسيطر عليها الحركة :
" ترتجف من البرد والخوف و أمعاؤها الفارغة تصرخ في شبه عواء لا يسمعه أحد سـواها ، و بين الفينة و الأخرى يلسعها سوط يمتد من كلمة عابر يسال في برودة و بلاهة "
" اشتعلت في القرية الآمنة على حين غرّة معركة دامية..أصبح كل شيء يلتهب تحت سيل القنابل و النفط المحرق الذي ألقي على النخيل " . " كان كلّ همها أن تخرج من الجحيم الفاغر فاه أمامها فجرت نحو الجبل حتى سالت الدّماء من قدميها .. وتلفتت حولها في هلع...... ".
"رآهما تحت الأنقاض يحاولان الفرار بينما النّار تسد عنهما الطّريق بمزيد من الدخان و الغبار ."
- من خصال المرأة السياسية و الاجتماعية و الثقافية : الالتزام بالقضايا الوطنية و النضال من أجلها , و شعورها بالمسؤولية و إيمانها بدورها الاجتماعي الذي يتبلور في إعدادها للأجيال , و إيمانها بقدرتها على توجيه مسار الحياة و النهوض بالمجتمع الذي لا يستغنى عن وجودها .
- تشترك ياسمينة مع أحمد في الهوية الوطنية , أمّا من حيث الحالة فأحمد ثائر و مناضل بينما ياسمينة تقع تحت طائلة واقع مأساوي فرض عليها فتتجاوزه بروح متسامحة تتخطى أحزانها , و من حيث الخصائص فأحمد يتبنى خيار التغيير في حين تستسلم ياسمينة لواقعها .
- المرأة الثانية امرأة مقعدة ثرثارة و كثيرة الهذيان و تعاني من التهميش , و نستنتج أنّها ضحية واقع اجتماعي قاس أفرزته ظروف الاحتلال .
- بيّن كيف تنوع البرنامج السردي و تفاوت من حيث تعدد الشخصيات و تصارعها و من حيث قيمة البرامج و أهميتها .
- عرّف الشخصية القصصية و الفرق بينها و بين الشخصية الواقعية .
- نوع البرنامج السردي في القصة و قد قام على العناصر التالية :
- التحريك : و يعني الحافز الذي تمثل في رغبة أحمد في التغيير و إحساسه بواجبه نحو وطنه .
- الكفاءة : تتجلى في قدرة ياسمينة على تجاوز آلامها و تحليها بالصبر و القوة .
- الإنجاز : استشهاد أحمد و تضحيته في سبيل الوطن .
- الجزاء : الإشادة بأحمد و بدوره البطولي و تخليد ذكراه .
- الشخصية القصصية : هي الشخصية الفنية التي يرسمها القاص في خياله و يجعلها حية في حركاتها و سكناتها .
و يتجلى الفرق بينها و بين الشخصية الحقيقية : في كونها شخصية خيالية مثالية , في حين أن الشخصية الحقيقية شخصية واقعية .
- تسند إلى الشخصية القصصية عدة وظائف منها : المساهمة في بناء العقدة القصصية , بيّن مساهمة ياسمينة في بناء النص .
- عدّد وظائف الوصف التي يمكن استخلاصها من خلال النص .
- صنف أنواع الحوار في هذا النص و بيّن دورها في تقدم الأحداث .
- حدّد نمط النص و أهم خصائصه معتمدا الطابع الغالب على النص .
- القصة القصيرة ذات ارتباط وثيق بالنّزعة الذّاتية ، و بالحديث المفرد فزليخة السعودي عمدت إلـى الحوارِ الداخلي الذي يُؤدي إلى بناء الأحداث القصصية و تصعيدها فمن خلاله تنشـأ أحـداث قصـة ياسمينة في ماضيها و حاضرها ، و نتعرف سماتها و خصائصها ، و يتم تحليلُ الحوارِ استرشاداً بمعطيات الذّاكرة ، و المخيلة بوصفها مولداً مستمراً لحالات و صُورٍ و رغبات ، تُقيم فعل التّواصل ، فلقد ساهمت ياسمينة في بناء النص بانفعالاتها وهمومها و مأساتها التي عاشتها بعد مقتل زوجها , و ضياع أبنائها , لكنها قهرت المعاناة و تجاوزت ألمها لوعيها التام بقضايا وطنها , فانفتحت أمامها نافذة الأمل .
- الوصفُ هو تمثيلُ الأشياء أو الحالات أو المواقف أو الأحداث في وجودها أو وظائفهـا ، مكانيـا لا زمانياً ، و يكون الوصف في البداية لتسهيل الفهم والمتابعة ، أو في النهاية للتشويق . و من وظائف الوصف: الوظيفة الواقعية ، الوظيفة السردية ، الوظيفة الجمالية .
- تنوع الحوار بين عادي دار بين ياسمينة و المرأة الثانية و داخلي دار بين ياسمينة و نفسها و قد أسهم النّوعان في تقدم الأحداث القصصية بحيث كشف الحوارُ الخارجي عن صفات الشخصـية المسـاعدة ( أحمد ) حين سؤال المرأة الثانية لياسمينة عمن يكون أحمد ، و أما المونولوج الداخلي فقد جسد الصـراع النّفسي الذي تعانيه الشّخصية و هو أساس الأحداث القصصية كلّها ، فكان الحوار الداخلي تعبيـرا عـن تدفّق الأفكار ، و عن المكان الذي تجري فيه .
- النمط الغالب على النص : سردي تخلله الوصف و الحوار .
أما مؤشراتــــه فهي :
- ظروف الزمــان و المكان خاصــة .
- الجمـل الخبرية . أفعــال الحركة .
- الأحداث .
- الماضي لسرد الأحـداث الماضيــة .
- المضارع يضع القــارئ في خضم الأحـداث .
- تمر كل قصة من حيث الحدث و الزمن بالمراحل الآتية : زمن ما قبل التحول - زمن التحول- زمن ما بعد التحول. بناء على ذلك حدد زمن التحول في هذه القصة معتمدا على بداية الأحداث .
- هل تجد بين مضمون النص و بين العنوان علاقة قوية ؟ استدل على ذلك من النص .
- زمن التّحول في هذه القصة : هو هو حدثُ سفَرِ أحمد إلَـى فرنْسـا و حدثُ تدميرِ القرية .
- نعم ، فالعنوانُ مركّب من ثنائية تتشكّلُ من مبتَدأ " الجُرحُ " معرف بالألف واللاّمِ بصيغة " فَعلُ " ثم واوِ العطْف و الاسمِ المعطُوف " الأملُ " ، هذه الثنائيةُ عتبةٌ لفهمِ النّص كلّه الجُرحُ الذي عاشه المجتمع الجزائريُّ التحول إثر الاستعمارِ، و الأملُ في النَّصرِ و فرحته .
- ما الموضوع الذي عالجه النص ؟
- يعالج هذا النّص الهجرة التي فرضتها ظروف الاحتلال و ما نجم عن ذلك من آثار مأساوية في كثير من المجالات ، و كان للمرأة حضور قوي في القصة القصيرة الجزائرية باعتبارها موضوعا و باعتبارها كاتبة للنّص .