النص الأدبي الثاني : في الطبيعة والنفس البشرية لابن خلدون
النّص :
اعلم - أرشدنا الله وإياك - ,أّنا نشاهد هذا العالم بما فيه من المخلوقات كلها على هيئة من التركيب والإحكام لا تنقضي عجائبه في ذلك ولا تنتهي غاياته، وأبدأ من ذلك بالعالم المحسوس الجثماني، و أولا عالم العناصر المشاهدة كيف تدراج صاعدا من الأرض إلى الماء ثم إلى الهواء ثم إلى النار متصلا بعضها ببعض...، والصاعد منها ألطف مما قبله إلى أن ينتهي إلى عالم الأفلاك وهو ألطف من الكل على طبقات اتصل بعضها ببعض على هيئة لا يدرك الحس منها إلا الحركات فقط، و بها يهتدي بعضهم إلى معرفة مقاديرها وأوضاعها، وما بعد ذلك من وجود الذوات التي لها هذه الآثار فيها. ثم انظر إلى عالم التكوين كيف ابتدأ من المعادن ثم النبات ثم الحيوان على هيئة بديعة من التدريج، آخر أفق المعادن متصل بأول أفق النبات مثل الحشائش، و ما لا بذر له، وآخر أفق النبات مثل النخل و الكرم متصل بأول أفق الحيوان مثل الحلزون والصدف، و لم يوجد لهما إلا قوة اللمس فقط، ومعنى الاتصال في هذه المكونات أن آخر أفق منها مستعد بالاستعداد الغريب لأن يصير أول أفق الذي بعده، و اتسع عالم الحيوان و تعددت أنواعه، و انتهى في تدريج التكوين إلى الإنسان صاحب الفكر و الروية. ثم إننا نجد في العوالم على اختلافها آثارا متنوعة : ففي عالم الحس آثار من حركات الأفلاك والعناصر، وفي عالم التكوين آثار من حركة النمو والإدراك، تشهد كلها بأن لها مؤثرا متباينا للأجسام، فهو روحاني ويتصل بالمكونات لوجود اتصال هذا العالم في وجودها، و ذلك هو النفس المركبة المحركة، ولابد فوقها من وجود آخر يعطيها قوى الإدراك والحركة، ويتصل بها أيضا، ويكون ذاته إدراكا صرفا وتعقلا محضا، وهو عالم الملائكة. فوجب من ذلك أن يكون للنفس استعداد للانسلاخ من البشرية إلى المَلكية لتصير بالفعل من جنس الملائكة وقتا من الأوقات في لمحة من اللمحات، فلها في الاتصال جهتا العلو و السفل : فهي متصلة بالبدن من أسفل منها ومكتسبة به المدارك الحسية التي تستند بها للحصول على التعقل بالفعل، ومتصلة من جهة الأعلى منها بأفق الملائكة ومكتسبة به المدارك العلمية والغيبية، فإن عالم الحوادث موجود في تعقلاتهم من غير زمان.
ثم إن هذه النفس الإنسانية غائبة عن العيان وآثارها ظاهرة في البدن، فكأنه وجميع أجزائه مجتمعة ومتفرقة ألات للنفس ولقواها، أما الفاعلية فالبطش باليد، والمشي بالرجل، والكلام باللسان والحركة الكلية بالبدن متدافعا .
وأما المدركة وإن كانت قوى الإدراك مرتبة ومترقية إلى القوة العليا منها ومن الفكرة التي يعبر عنها بالناطقة، فقوى الحس الظاهرة بآلاته من السمع والبصر وسائرها يرتقي إلى الباطن ، وأوله الحس المشترك، وهو قوة تدرك المحسوسات مبصرة ومسموعة وملموسة وغيرها في حالة واحدة، وبذلك فارقت قوة الحس الظاهر، لأن المحسوسات لا تزدحم عليها في الوقت الواحد، ثم يؤديه الحس المشترك إلى الخيال، وهي قوة تمثل الشيء المحسوس في النفس كما هو مجرد عن المواد الخارجة فقط .
أتعرف على صاحــــــــب الـنـــــــــص :
عبد الرحمن بن خلدون ولد بتونس 723 هـ - 1332م نشأ على حب العلم تحصيله ، اتصل بعلماء عصره وأخذ عنهم شتى المعارف ، بقي يتقلب بين بلاد الأندلس والمغرب العربي حتى بلغ مصر، وتوفي بها 808 هـ - 1406 م . |
أثــــــــــــري رصيـــــــدي اللغـــــــــوي :
- في معاني الألفاظ :
الإحكام : أحكم الشيء والأمر أتقنه ، محض : خالص لا يخالطه شيء .
انسلاخ : تحول .
- في الحقل الدّلاليّ :
ابحث عن المفردات التي تنتمي إلى عالم الطبيعة كما وردت في النص .
الأرض ، الماء ، الهواء ، النار ، المعادن ، النبات ، الحيوان ، الحشائش ، النخل ، الكرم ، الحلزون ، الصدف .
- لاحظ العلماء أن الأصناف النباتية والحيوانية لا تبقى على حالتها من تاريخ نشأتها إلى حين انقراضها . بيّن موقف الكاتب من هذه الملاحظة .
- يرى الكاتب أن عالم التكوين ابتدأ من المعادن ثم النبات ثم الحيوان على هيئة من التدرج .
- يرى الكاتب أن الأوصاف التي تميز الأنواع بعضها عن بعض لا تدوم على وتيرة واحدة ، بل تتطور تدريجيا ويؤدي ذلك إلى تكوين أنواع جديدة. استدل على ذلك من النص .
- يدل على ذلك قوله: آخر أفق المعادن متصل بأول أفق النبات مثل الحشائش ، وآخر أفق النبات مثل النخل والكرم متصل بأول أفق الحيوان مثل الحلزون والصدف...ومعنى الاتصال في هذه المكونات أن آخر أفق منها مستعد بالاستعداد الغريب لأن يصير أول الأفق الذي بعده .
- يعتقد الكاتب أن التطور لا ينحصر في الأنواع النباتية والحيوانية وحدها فهو يشمل النوع البشري أيضا . وضّح هذا الرأي معتمدا على النص .
- إن نظرية التكوين عند ابن خلدون تصنف الأنواع النباتية والحيوانية و ترتقي بالإنسان باعتباره عاقلا مفكرا، وتشير إلى أن خلق الإنسان قد مرّ بأطوار عن طريق النشوء والاشتقاق من نوع آخر .
- للنفس الإنسانية في هذا النص قوى عديدة ومتنوعة. عدد مختلف تجلياتها .
من قوى النفس البشرية الإدراك والحركة ، وتحتاج إلى وجود آخر يعطيها قوى الإدراك والحركة لترقى إلى جنس الملائكة في وقت من الأوقات .
قسم الكاتب الإدراك إلى نوعين أبرزهما مع التمثيل من النص .
- أشار الكاتب إلى الإدراك الحسي الذي يتعلق بالسمع والبصر واللمس و الإدراك العقلي الذي يتعلق بالمعرفة العلمية والغيبية .
- بين مدى التطابق بين آراء ابن خلدون في هذه المسألة وبين نظرية التطور عند " داروين " .
- تقترب آراء ابن خلدون في هذه المسألة من نظرية التطور عند دارون في الارتقاء من الناحية العضوية البيولوجية واستحالة الكائنات بعضها إلى بعض .
- يلاحظ ابن خلدون تأثير الأحوال النفسية في الأحوال البدنية عن طريق الإيحاء الذاتي حسب تعبير علماء النفس الحاليين . قدّم أمثلة على ذلك وهل يمكن أن يحدث العكس .
- من أمثلة ذلك شعور الإنسان بالخوف والفزع نتيجة مؤثر حسي يوحي له بالهلع ، فهذه الحالة النفسية تدفع به إلى الهرب وهنا يتدخل البدن فتتحرك الأرجل والأيدي .
- تحوّل الكاتب من الإجمال إلى التفصيل ، عين مواطن هذا التحول .
- مواطن هذا التحول تتمثل في : "وأبدأ من ذلك بالعالم المحسوس الجثماني "، وقد ورد تفصيل ذلك في : "و أولا عالم العناصر المشاهدة...."
"ثم إننا نجد في العوالم آثارا متنوعة "ورد تفصيل ذلك في :ط ففي عالم الحس."..،" فلها في الاتصال".. ورد تفصيل ذلك في : "فهي متصلة بالبدن.."
"فكأنه وجميع أجزائه مجتمعة ومتفرقة.."... ورد تفصيل ذلك في : "أما الفاعلية... ، وأما المدركة ".
- عين نمط هذا النص وأهم خصائصه .
- نمط النص تفسيري حجاجي ، إذ اعتمد الكاتب على التفصيل والتوضيح ، كما اعتمد على الأدلة و الحجج لتحقيق الإقناع .
- عين الروابط التي وظفها الكاتب في تنامي النص و تناسقه .
- من الروابط التي وظفها الكاتب حروف الجر والعطف مثل : الواو ، ثم ، من ، إلى ، الباء ، في .
- تكررت بعض الحروف ومنها الواو وثمّ في فقرات النص ، كيف وظف الكاتب هذه الحروف في بناء النص ؟
- وظفها في التّدرج الموضوعاتي الذي اعتمد فيه على التفصيل والتوضيح بعرض الأسباب و النتائج .
- ماذا الذي تطرّق إليه ابن خلدون في نصّه ؟
- تناول ابن خلدون نظرية التطور التدريجي في الطبيعة والنفس الإنسانية، وقدّم أمثلة لفهمها ، واستعان بنمط من التعابير للوصول إلى مقصده و وصل إلى نتيجة وهي أن هذا التطور لا ينحصر في الأنواع النباتية والحيوانية بل يشمل النوع البشري أيضا .
- و ما هي النتيجة التي توصل إليها ؟
- إلى أنّ النفس الإنسانية قادرة على الرقي إلى أعلى الدرجات بفضل ما ركب فيها من قوى عديدة ومتنوعة لتسمح لها بذلك .