نص تواصلي : الثقافة العربية لتوفيق الحكيم
النص :
إن الذي يدعو إلى الأسف والألم أن بعض المفكِّرين الشرقيين أنفسهم يشكون ويشككون في حقيقة وجود "الثقافة الشرقية". أولئك هم الذين قد بهرتهم انتصارات "الثقافة الغربية" المسيطرة الآن على العالم، فأعمتهم أشعتها الساطعة، وأقعدتهم وأسجدْتهم يسبحون بمجدها، ويفركون أعينهم التي لا ترى شيئا غير هذا النُّور الكثير !..
ذلك هو العمى، و العقم، والكسل. كذلك لا أقر تلك الفئة الأخرى من الشرقيين، الذين يظّنون أن التحمس للثقافة الشرقية معناه الجلوس متدثِّرين في أطمار حضارات بالية يصعرون خدودهم ويصيحون بألفاظ نعرة مضحكة وفخر كاذب!.. وذلك أيضا هو العمى، والعقم، والكسل!.. إّنما إنهاض الثقافة الشرقية لا ا يكون إلا بنهوض الشرقيين إلى العمل، فيبدءون أولا بالجري واللحاق بما وصلت إليه الثقافة الغربية.. تلك الثقافة التي أضافت اليوم كثيرا على ما
استطاعت أخذه من الحضارات الأولى!..
فثقافة الغرب –خصوصا في العصر الحديث– لا ُتهمل شيئا أنتجه العقل البشري في أي عصر من العصور، وفي أي بقعة من البقاع، فالأوربيون قد أفادوا من الفلسفة الهندية والصينية "شوبنهور" و"نيتشة"، وحتى من الثقافة العربية والشعر العربي. ولكنهم َ طبعوه بطابع فّنهم وتفكيرهم، ذلك أن حب المعرفة والاستطلاع لا يمكن أن يسمح لرجال الفكر الحقيقيين بالاقتناع بلون واحد أو الوقوف عند حد معلوم، فالأوربيون دائما يأخذون ما عند غيرهم من ثروة فكرية لِيصبوه في قالبهم !..
فأوربا إذن على ثروتها وغناها الثقافي اليوم لم يخطر ببالها قط أن تتقاعد عن َقطف ثمار أية شجرة أخرى!.. إن الفكر البشري ليس له حدود " دولية " إنما هناك المزاج الخاص، والطبيعة الخاصة التي ُتكيف تلك الثروة المباحة التي تنهل منها كل ثقافة وكلّ حضارة!..
إن الحضارة الأوربية في الحقيقة لم تخلق بيديها خلًقا كلّ هذه القوالب المعروفة في آدابها وفنونها، ولا كلّ هذه النظريات الشائعة في فلسفتها وعلمها، فإن كثيرا من هذه القوالب والنظريات مأخوذة عن الشرق في حالته الأولية، ولكن الأوربيين زادوا عليه، وأضافوا إليه، وأخرجوه ممهرا بإمضائهم، ومطليا بشخصيتهم!.. وهذا في الواقع عمل كلّ حضارة من الحضارات!.. ولا نستثني من ذلك الحضارة الإسلامية نفسها في عصورها الزاهرة، فما هي إلا جماع أفكار وثقافات وحضارات أُمم مختلفة، صبها الإسلام في قالبه، و جعل منها لونا خاصا.
فالثقافة الشرقية إذن، لا يمكن أن تكون اليوم بمعزل عن ثقافة أوربا، ولا أن تغمض عينيها عن هذه الثروة الهائلة، فلْنَمد أيدينا إذن غير مقيدين بسلاسل التقاليد أو العادات أو العقائد، فنأخذ كلّ شيء، ونهضم كلّ شيء. ثم ُنعرج على روحنا القديم، كلّ في بَلده. فنستخلص الأفكار الثابتة المدفونة : إذ لا ريب أن كلّ بَلد من بلاد الشرق فيه مَناجم الفكر مفعمة متألقة لم ُتستخرج بعد. فالغرب على نشاطه الفكري وَنهمه الذهني لا يستطيع أن يستخرج كلّ كنوز الشرق مثل الشرقي، إذ لابد أن تكون معاوله قد ارَتطمت بحواجز منيعة من أسرار طبيعة لا تكشفها غير طبيعة الشرقي وغرائزه، وتجارب حكمته المتراكمة في أعماق
نفسه، على مدى آلاف السنين!...
فإذا تم لنا ذلك، فإننا نطبع كلّ تلك الثروة و ُ كلّ تلك المادة بطابعنا الخاص، وعلى نحو ما حدث عندما اختلفت طبائع الدول الشمالية في أوربا عن طبائع الدول الجنوبية، فتفرعت عن الثقافة الواحدة ثقافتان، هما الثقافة اللاتينية، والثقافة الأنجلو سكسونية، ثقافتان لا تختلفان من حيث مقدار الثروة الذهنية، وإّنما تختلفان في الطابع والمزاج والروح، فإذا كان في مقدورنا نحن أن نضيف إلى هاتين الثقافتين العظيمتين ثقافة ثالثة، لا تختلف عنهما في مبلغ ثروتها ومادتها، وإّنما ُتخالفهما فقط في الطابع والطبيعة والروح، ثقافة ثالثة حية نامية جميلة، عليها خاتم شخصيتنا الشرقية، يراها الغرب، فكأنه يرى شيئا جديدا مستقلا، قد أخرج لهم من صدر عبقرية جديدة، فإّننا نكون قد أدينا رسالتنا إلى هذا العاَلم، وأمكننا أن نساير الفكر البشري في طوره، وأن نسهم بعملنا و مواهبنا في بنائه العظيم، وأن نظفر أخيرا باحترام هاتين الثقافتين الحيتين القائمتين، ذلك الاحترام الذي تنظر به إحداهما على الأخرى، ويعي "الشرق" عندئذ مدى اعتباره في نظر " الغرب " !....
التعرف على صاحب النص :
|
- كيف يمكن للعرب إنهاض ثقافتهم ؟
- يمكن للعرب إنهاض ثقافتهم بالتّفاني في العمل و بإتقانه لمواكبة الرّكب الحضاريّ .
- كيف استطاع الغرب في العصر الحديث الإنهاض بثقافتهم ؟
- استطاع الغرب في العصر الحديث الإنهاض بثقافتهم باهتمامهم بكلّ ما أنتجه العقل البشريّ منذ قرون دون تمييز، فلقد استفادوا من كلّ الحضارات ( اليونانية ، الصّينيّة ، الهندية ، العربيّة....)
- كيف يمكن للعرب مجاراة الحضارة الأوربيّة ؟
- يمكن للعرب مجاراة الحضارة الأوربيّة بالاغتراف من علومها و ثقافتها دون قيد مع الحفاظ على مقومات شخصيتها العربية الإسلاميّة .
- لمَ لمْ يستثن الكاتب إسهام الحضارة الإسلاميّة في تطوّر الفكر البشريّ ؟
- لمْ يستثن الكاتب إسهام الحضارة الإسلاميّة في تطوّر الفكر البشريّ لأنّها سبقت الحضارة الغربيّة بقرون و يعود لها الفضل في اطلاع العالم على الحضارة اليونانية و الرّومانية و الهندية بترجمتها للكثير من علومها .
- هل تغيّرت نظرة الغرب إلى العرب في ظلّ العولمة اليوم ؟
- لم تتغيّر نظرة الغرب إلى العرب في ظلّ العولمة اليوم ، فالغربيّ لا يحترم العربيّ إلاّ إذا تجرّد من انتمائه العربيّ الإسلاميّ و من قيّمه الإنسانيّة النبيلة .