النّصّ التّواصليّ: أثر النّزعة العقليّة في القصيدة العربيّة شوقي ضيف
ناقد مصري ولد سنة 1910 م بمصر و توفي سنة 2005 م .
رَقِيَتِ الحياة العقليّة في هذا العصر رُقيّا بعيدا و هو رُقيّ هيّأت له الكتب الكثيرة الّتي تُرجمت عن الهنود و الفرس و اليونان، كما هيّأت له المحاورات و المناظرات بين أصحاب المِلل و النّحَل و الأهواء، و هي مناظرات دفعت الشّعراء كما دفعتغيرهم إلى التّفكير المتّصل الّذي ما يني صاحبه يحاور و يناظر متناولا كلّ شيء، حتّى يصقل عقله، و حتّى يبلغ أقصى ما يريد من العلم و المعرفة و ما لم يعرفه و لم يعلمه العلماء، سأل عنه ليصوّروه له و ليزيلوا الشّبهة فيه عن نفسه و في ذلك يقول " بشّار بن بُرد ":
شِفـــاءُ العَمــــى طـــولُ السُّـــؤالِ و إِنَّـــمــا | دَوامُ العَمـــى طـــولُ السُّكـــوتِ عَلى الجَــهْــلِ |
فَكُنْ سائِلاً عَمّا عَناكَ فَإِنَّما دُعيتَ أَخا عَقْلٍ لِتَبْحَثَ بِالعَقْلِ و لم يكن الشّاعر العبّاسيّ يلتمس المعرفة عند العلماء و لقائهم و سعيه لسؤالهم و إلحاحه فيالسّؤال فحسب، بل كان يلتمس أيضا في الكتب المترجمة من كلّ صنف و قد نزع الشّعراء عامّة في هذا العصر للتّزوّد بجميع ألوان المعرفة، و ما كانوا يجدون في ذلك من لذّة عقليّة. و قد مضوا يتمثّلون كثيرا من هذه الألوان و يحيلونها غذاء شعريّا بديعا، سواء منها الهنديّ و الفارسيّ و اليونانيّ، و ما لم يحيلوه تأثّروا به من قريب أو بعيد، و لنقف قليلا عند الثّقافة الهنديّة في قول " أبي نواس " في بعض المغنّيين هاجيا:
قُــــلْ لِــــزُهَـــــــيْـــــــرٍ إِذا حَــــدا و شَــــدا | أَقْـــــلِـــلْ أو أَكْــــثِـــــرْ فَـــأَنْـــتَ مِـــهْــــــــذارُ |
سَــخُــنْــــــتَ مِـــنْ شِــــدَّةِ الــــبُــــــــــرودَةِ | حَتَّــــــى صِرْتَ عِـــنْــــدي كَـــأَنَّـــكَ الـــنَّــــارُ |
لا يَــعْــجَــبُ السّــــامِـعــــونَ مِنْ صِفَـتـــي | كَــــــــذَلــــِكَ الـــثّــــلْـــــجُ بــــــارِدٌ حـــــــــارُ |
و هذا الشّعر يدلّ على نظرة " أبي نواس " في علم الطّبائع، لأنّ الهند تزعم أنّ الشّيء إذا أفرط في البرد عاد حارّا مؤذيا ... و كان تأثير الثّقافة الفارسيّة في الشّعر و الشّعراء أشدّ و أقوى من تأثير الثّقافة الهنديّة، إذ كان كثير من الشّعراء يتقنون اللّغة الفهلويّة، و قد مضى الشّعراء منذ ظهور كتابي " الأدب الكبير " و " الأدب الصّغير " ﻟ " ابن المقفّع " يتأثّرون نقله فيهما من تجارب الفرس و حكمهم و وصاياهم في الصّداقة و المشورة و آداب السّلوك و السّياسة، و من يرجع إلى "بشّار " يجده يفرد للمشورة قطعة طويلة في إحدى مدائحه:
بِــــرَأْيِ نَـــصــيـــــحٍ أو نَـــصــيــــحَةِ حــــازِمِ | إذا بلــغَ الـــرّأيُ الـــمَشـــــــورَةَ فَاسْــتَــعِـــنْ |
فَـــــإِنَّ الــــخَـــوافــــــي قُـــــــوَّةٌ لِلـــــقَـــــوادِمِ | و لا تَجْــعَــلِ الشّـــــورى عَلَيْكَ غَضـــاضَـةَ |
و لا ريب في أنّ الثّقافة اليونانيّة كان تأثيرها في الشّعر و الشّعراء أعمق و أبعد غورا، بما فتحت أمامهم من أبواب الفكر الفلسفيّ و أبواب المنطق و مقاييسه و أدلّته، و ما بعثت فيهم من محاولات استكشاف دفائن المعاني و استخراج دقائقها. و قد مضى كثير من الشّعراء يزيدون محصولهم من تلك الثّقافة بل كان منهم من ألّف في المنطق حتّى يشحذ ذهنه و أذهان الشّعراء من حوله. و كان ممّا ترجم لهم من تلك الثّقافة " مراشي فلاسفة اليونان " ﻟ " لإسكندر المقدوني " عند و فاته و قد نقل منها أبو العتاهية أطرافا إلى مراثيه:
بَـــكَـــيْــتُـــكَ يـــا عَــلِــيُّ بِدَمْــــعِ عَيْنـــــي | فَــمـــا أَغْنــى الـــبُــــكــــاءُ عَــلَــــيْــكَ شَــيَّــــا |
كَــفــــــى حُـــزْنــــا بِـدَفْـــنِـــكَ ثُـــمَّ أَنِّـــــي | نَــــفَــضْــــتُ تُــــــــرابَ قَــبْــرِكَ مِــــنْ يَـــدَيَّ |
و كــــانَـتْ فــــي حَيــــاتِـــكَ لـــي عِظـــاتٌ | و أَنْــــتَ الـيَــــوْمَ أَوْعَـــــــظُ مِــنْــــكَ حَــــيَّــــا |
و لعلّ أكبر بيئة عَنِيَتْ بهذه الثّقافات المتنوّعة، و كان لعنايتها بها أثر واسع في الشّعر و الشّعراء، بيئة المعتزلة، إذ كانت تقوم من الفكر العبّاسيّ في هذا العصر مقام المجداف من السّفينة، فهي تثيره و تدفعه إلى أن يزيد محصوله من جميع المعارف والمعتقدات، و أن يتمثّلها إلى أبعد حدّ ممكن، و بدأوا بأنفسهم فتثقّفوا من كلّ ما ترجم عن الهنود و الفرس و اليونان وعكفوا على الفلسفة اليونانيّة عكوفا جعلهم يقفون على كلّ شعبها و مناحيها في الفكر الدّقيق و لم يلبثوا أن استكشفوا لأنفسهم عالمهم العقليّ الّذي يموج بطرائق الذّهن في جميع المعاني الحسّيّة و العقليّة، و كانوا يحاورون أصحاب الملل و النّحَل في المساجد الجامعة و من حين إلى حين يحاور بعضهم بعضا في غوامض الفلسفة محلّلين مستنبطين ... و اشتقّوا لهم آراء جديدة يدعمها العقل الّذي شغفوا به و بأدلّته و براهينه، و هو شغف صوّره " بشر بن المعتمر " إذ يقول:
لِلهِ دَرُّ الـــــــعَــــــقْـــــــلِ مـــــــِنْ رائِــــــــدٍ |
و صــــــاحِـــبٍ فـــي الــــعُــسْــرِ و الـــيُـــسْــرِ |
و حــــــاكِمٍ يَـــقْــضــــــي عَلـــى غـــائِــــبٍ | قَــــــضِــــيَّــــــةَ الــــشَّـــــــاهِــــــدِ لِـــلأَمْــــــرِ |
و قد سخّر " بشر " عقله في نظم قصائد تدخل في التّاريخ الطّبيعيّ يتحدّث فيها عن مشاهد الطّبيعة و دِلالتها على قدرة الصّانع الخالق ... كما نظم شعراء من المعتزلة شعرا لم يكون بعيدا عن دوائر الشّعر المألوفة من المديح و الغزل و الهجاء و الرّثاء والوصف بيد أنّهم طبعوه بطوابع جديدة من دقّة المعاني و من غرائب الأخيلة و الصّور.
و من أهمّ المشاكل الّتي عالجها الشّعراء مشكلة الجبر و الاختيار و فكرة التّولّد ( و هو الفعل الّذي ينشأ عن فعل آخر دون قصد )، و فكرة الجزء الّذي لا يتجزّأ أو فكرة الجوهر الفرد. يقول " أبو نواس " متغزّلا و محاورا و مجادلا نظراءه المعتزلة:
يـــــــا عــــــاقِــــــدَ الــــــقـــلــــب عــنّــــي | هـــــــــــــلاّ تـــــــــــذكّـــــــــــرْتَ حـــــــــــلاّ |
تَـــــــرَكْــــــتَ مِــــنِّـــــــي قَــــــلــــــيــــــلاً | مِـــــــــــنَ الـــــــــقَــــــــلــيــــــــلِ أَقَــــــــــــلّا |
يَــــــــكــــــــــــــادُ لا يَــــــــــتَــــجَـــــــــــزّأُ | أَقَـــــــــــلُّ فـــــــــي الــــلَّــــفْـــــــظِ مِــــــــنْ لا |
هكذا كان رقيّ الحياة في العصر العبّاسيّ، و أثر نزعتها على القصيدة في تلك الفترة، و ما استحضر من شواهد في هذا النّصّ قليل جدّا نظرا لغزارة مادّتها، و ما هيّأته الظّروف المساعدة لكلّ ذلك في هذا العصر.
من كتاب ( العصر العبّاسيّ الأوّل ) – بتصرّف –
- ما روافد الحياة العقليّة في العصر العبّاسيّ الأوّل؟
- من روافد الحياة العقليّة في العصر العبّاسيّ الأوّل:
- الكتب المترجمة عن اليونان و الهنود و الفرس.
- المحاورات و المناظرات بين أصحاب الملل و النّحل و الأهواء.
- هل كان الشّاعر العبّاسيّ بمنأى عن هذه الحركة العقليّة؟
- لا، لم يكن الشّاعر العبّاسيّ بمنأى عن هذه الحركة العقليّة , اِنّما راح يستقي منها ما يشبع نهمه المعرفي و الثّقافي .
- ما المقصود بأصحاب الملل و النّحل؟
- المقصود بأصحاب الملل و النّحل هم أصحاب المذاهب و الأديان و العقائد.
- ما أثر كتابي الأدب الكبير و الأدب الصّغير ﻟ " ابن المقفّع " في الأدب العربيّ؟
- تأثّر الشّعراء بما نقله " ابن المقفّع " من تجارب الفرس و حكمهم و وصاياهم في الصّداقة و المشورة و آداب السّلوك و السّياسة.
- من هم المعتزلة؟ و من أين استمدّوا ثقافتهم؟
- المعتزلة هم فرقة إسلاميّة فلسفيّة كانت تحاور أصحاب الملل و النّحل في المساجد، اشتقّوا لهم آراء يدعمها العقل.
- ما الأسباب الّتي جعلت الشّاعر يتأثّر بالحياة العقليّة؟
- الأسباب الّتي جعلت الشّعراء يتأثّرون بالحياة العقليّة هو رقيّها رقيّا بعيدا، و ماكانوا يجدون في ذلك من لذّة عقليّة.
- اُذكر بعض الشّعراء الّذين تأثّروا بالحياة العقليّة في العصر العبّاسيّ؟
- من الشّعراء الّذين تأثّروا بالحياة العقليّة في العصر العبّاسيّ:
- باْبو تمام .
- أبو نواس.
- أبوالعَتاهية.
- بِشر بن المُعتمِر.
- ما مصدر المنطق عند العرب؟
- مصدر المنطق عند العرب هو الثّقافة اليونانيّة.
- بيّن دور الأمم غير العربيّة في إثراء الحياة العقليّة.
- أخذ العرب المنطق و الفلسفة عن اليونان , الأدب و أنظمة الحكم و الأخلاق عن الفرس, وعلم الطبابع عن الهنود .
لا يَعْجَــــبُ السّـــــامِعـــــونَ مِنْ صِـــــــفَتـــــي | كَــــــذلِكَ الثَّـــــلْـــــجُ بـــــــاردٌ حــــــارُ |
لأنّ الهند تزعم أنّ الشّيء إذا أفرط في البرد عاد حارّا مؤذيا و كان تأثير الثّقافة الفارسيّة أشدّ، و تأثير الثّقافة اليونانيّة أعمق بما فتحت أمامهم من أبواب الفكر الفلسفيّ و أبواب المنطق و مقاييسه.
- كيف كان أثره في الشّعر بصفة خاصّة؟ و على المجتمع بصفة عامّة؟
- كان أثر هذا الرّقيّ واضحا في الشّعر حيث كان من الشّعراء من ألّف في المنطق حتّى يشحذ ذهنه و أذهان الشّعراء من حوله. و هكذا استكشفوا لأنفسهم عالمهم " العقل " و اشتقّوا لهم آراء جديدة يدعمها العقل الّذي شغفوا به
و بأدلّته و براهينه. أمّا المجتمع فقد انقسم بين مؤيّد و معارض لذلك.