المطالعة الموجّهة: في أرض الجنّ -ابن شهيد -
ولد أبو عامر أحمد بن عبد الملك بن شهيد في قرطبة سنة 992 م و نشأ فيها و استوزره صاحبها . كان ابن شهيد من أعلم أهل الأندلس و كان متفنّنا بارعا في فنونه يظهر تفنّنه في طريقة نقده الّتي بنى فيها آراءه على تأثير نفس الكاتب في إنشائه و في تصانيفه الغريبة البديعة أمثال كتاب " الزّوابع و التّوابع " أي " الشّياطين و الجنّ " توفّي في قرطبة سنة 1034 م .
أحسّ الشّاعر أنّ معاصريه من الأدباء و النّقّاد لم ينزلوه المنزلة الأدبيّة الّتي رأى نفسه أهلا لها فراح يلتمس التّقدير و التّكريم عند من هم أعلى قدرا من معاصريه .
قال أبو عامر : تذاكرت يوما مع زهير بن نُمير أخبار الخطباء و الشّعراء و ما كان يألفهم من التّوابع و الزّوابع ، و قلت : هل حيلة في لقاء من اتّفق منهم ؟ قال حتّى أستأذن شيخا . و طار عنّي ثمّ انصرف كلمح البصر ، و قد أذن له فقال : حلّ على متن الجواد . فصرنا عليه ، و سار بنا كالطّائر يجتاب الجوّ فالجوّ و يقطع الدّوّ فالدّوّ حتّى التحمت أرضا لا كأرضنا ، و شارفت جوّا لا كجوّنا ، متفرّع الشّجر ، عطر الزّهر ، فقال لي : حللت أرض الجنّ أبا عامر فبمن تريد أن نبدأ ؟
قلت : الخطباء أولى بالتّقديم ، لكنّي إلى الشّعراء أشوق
... ثمّ قال لي زهير : من تريد بعد ؟
قلت : أريد صاحب أبي نواس .
قال : هو بدير حنّة منذ أشهر ، قد غلبت عليه الخمر ، و دير حنّة في ذلك الجبل . و عرضه عليّ فإذا بيننا و بينه فراسخ ، فركضنا ساعة ... حتّى انتهينا إلى أصل جبل دير حنّة ، فشقّ سمعي قرع النّواقيس فصحت : من منازل ابي نواس و ربّ الكعبة العليا !
و سرنا نجتاب أديارا و كنائس و حانات حتّى انتهينا إلى دير عظيم تعبق روائحه و تصوك نوافحه ، فوقف زهير ببابه فصاح : سلام على أهل دير حنّة .
فقلت لزهير : أ و هل صرنا بذات الأكيراح ؟
قال : نعم . و أقبلتْ نحونا الرّهّابين مشدّدة بالزّنانير ، قد قبضت على العكاكيز ، بيض الحواجب و اللّحى ، إذا نظروا إلى المرء استحيا ، مكثرين للتّسبيح ، عليهم هدى المسيح ، فقالوا : أهلا بك يا زهير من زائر ، و يصاحبك أبو عامر ، ما بغيتك ؟
قال : حسين الدّنّان . قالوا : إنّه لفي شرب الخمرة منذ أيّام عشرة ، و ما نراكما منتفعين به . فقال : و على ذلك .
و نزلنا و جاؤوا بنا إلى بيت قد اصطفّت دنانه ، و عكفت غزلانه ، و في فرجته شيخ طويل الوجه و السّبلة ، قد افترش أضغات زهر ، و اتّكأ على زقّ خمر ، و بيده طرجهارة ، فصاح به زهير : حيّاك الله أبا إحسان ! فجاوب بجواب لا يعقل لغلبة الخمر عليه . فقال لي زهير : اقرع أذن نشوته بإحدى خمريّاتك ، فإنّه ربّما تنبّه لبعض ذلك فصحت أنشد من كلمة لي طويلة :
و لَــــــرُبَّ حـــــانٍ قَــــــدْ أَدَرْتُ بِـــدَيْــــــرِهِ | خَـــمْــرَ الـــصِّـــبـــا مُــزِجَـتْ بِصَفْوِ خُمــورِهِ |
فَصاح من حبائل نشوته : أ أشجعيّ ؟ قلت : أنا ذاك
فاستدعى ماء قرّاحا ، فشرب منه و غسل وجهه ، فأفاق . و اعتذر إليّ من حاله ، فأدركتني مهابته ، و اخذت في إجلاله لمكانه من العلم و الشّعر .
فقال لي : أنشد أو حتّى أنشدك ؟ فقلت : إنّ ذلك لأشدّ لتأنيسي . على أنّه ما بعدك لمحسن إحسان ، فأنشدت :
دَعــــــاهــــــــا إلــــى اللهِ و الـــخـــــيــــرِ داع | و نــــاظِـــرَةٍ تَـــــحْــــــتَ طَـــيِّ الـــقِـــنـــاعِ |
عَـــلـــى الأرْضِ خَـــطٌّ كَــظَــهْـــرِ الـــشُّجــاع | فَــــــوَلَّــــتْ و للـــمِــسْـــكِ مِــــنْ ذَيْـــلِــهــــا |
فلمّا سمع هذا البيت ، قام يرقص به و يردّده ، ثمّ أفاق فقال : هذا و الله شيء لم نُلهَمه نحن . ثمّ استدناني فدنوت منه فقبّل بين عينيّ فقال : اذهب فإنّك مجاز .
فانصرفنا عنه و انحدرنا من الجبل ، فقال لي زهير : و من تريد بعد ؟
فقلت له : خاتمة القول صاحب أبي الطّيّب .
فقال : اُشدد له حيازيمك و عطّر له نسيمك ، و انثر عليه نجومك . و أمال عنان الأدهم إلى طريق فجعل يركض بنا و زهير يتأمّل آثار فرس حارثة بن المغلس صاحب أبي الطّيّب و هو صاحب قنص فلم يزل يتقرّاها حتّى وقفنا إلى فارس على فرس بيضاء كأنّه قضيب على كثيب و بيده قناة قد أسندها على عنقه و على رأسه عمامة حمراء قد أرخى لها عذبة صفراء فحيّاه زهير فأحسن الرّدّ ناظرا من مقلة شوساء قد ملئت تيها و عُجبا فعرّفه قصدي و ألقى إليه رغبتي فقال : بلغني أنّه يتناول ، قلت : للضّرورة الدّافعة و إلاّ فالقريحة غير صادعة و الشّفرة غير قاطعة .
قال : فأنشدني و أكبرته أن أستنشده فأنشدته قصيدتي الّتي أوّلها :
أ برقٌ بَـــدا أم لَـــمْــعُ أبـــيــضَ قـــاصِــلِ ؟
حتّى انتهيت إلى قولي :
يَـــظُـــنُّ أَنَّ الــــدِّيــنَ حِــفْــظُ الــمَـــســـائِــــلِ | و نـــاقِــــلِ فِـــقْــــهٍ لَــــمْ يَـــرَ اللهَ قَـــلْـــبُـــــهُ |
بِــهِ كـــاعِـــبـــاً فـــي الـــحَـــيِّ ذات مــعـــازِلِ | و حـــــــامِلِ رُمْــــحٍ راحَ فَــــوْقَ مَـــضائِـــهِ |
... فلمّا انتهيت قال لزهير : إن امتدّ به طلق العمر ، فلا بدّ أن ينفث بدرر و ما أراه إلاّ سيحتضر بين قريحة كالجمر ، و همّة تضع أخمصه على مفرق البدر . فقلت : هلّا وضعته على صلعة النّسر ؟ فاستضحك إليّ و قال : اذهب فقد أجزتك بهذه النّكتة . فقبّلت رأسه و انصرفنا .
كتاب الزّوابع و التّوابع
- الدّوّ : البرّيّة
- تصوك : صاك الطّيب و المسك لصقا
- نوافح : نافحة من نفح الطّيب انتشرت رائحته
- الأكيراح : مكان في العراق كانت فيه بيوت صغيرة تسكنها الرّهبان
- السّبلة : الشّارب
- طرجهارة : فنجانة
- شوساء : شاس الرّجل وشوس ، نظر بمؤخّر عينه تكبّرا
- يتناول : يأخذ بقول الشّعر
- صادعة : ماضية
- قاصل : قاطع
- من هو زهير ؟ و من هو أبو عامر ؟
- لماذا أراد أبو عامر مقابلة أبي نواس ؟
- ما موقف أبي نواس من شعر أبي عامر ؟
- ما رأي المتنبّي في شاعريّة أبي عامر ؟
- أبو عامر هو ابن شهيد صاحب النّصّ . أمّا زهير بن نُمير فواحد من أصحاب ابن عامر .
- لأنّه كان مشتاقا لرؤيته و رؤية أمثاله من الشّعراء .
- كان شديد الإعجاب بشعره و لذلك أجازه .
- هو الآخر أعجب بشعره و أجازه .
- هل وفّق الكاتب في وصف بيئة كلّ من أبي نواس و المتنبّي ؟ علّل .
- لماذا اعتمد ابن شهيد على النّمط القصصيّ ؟
- لأيّ شيء يهدف الكاتب من خلال النّصّ ؟
- يتّضح أنّ ابن شهيد فضّل المتنبّي على أبي نواس ، ما الدّليل على ذلك ؟
- نعم وفّق الكاتب في وصف بيئة كلّ من أبي نواس و المتنبّي ، فأبو نواس تدلّ بيئته على أنّه رجل لهو و مجون : " و نزلنا و جاؤوا بنا إلى بيت قد اصطفّت دنانه ، و عكفت غزلانه ... " ، أمّا المتنبّي فبيئته تدلّ على أنّه فارس : " و هو صاحب قنص فلم يزل يتقرّاها حتّى وقفنا إلى فارس على فرس بيضاء ... "
- لأنّ القصّة تجعل القارئ يتشّوق لقراءتها و معرفة المزيد من أحداثها
- يهدف الكاتب من خلال النّصّ إلى بيان مكانته الأدبيّة لغة و شعرا
- الدّليل قوله : " فأنشدني و أكبرته أن أستنشده "
- " فلم يزل يتقرّاها حتّى وقفنا إلى فارس على فرس بيضاء كأنّه قضيب على كثيب و بيده قناة قد أسندها على عنقه و على رأسه عمامة حمراء قد أرخى لها عذبة صفراء فحيّاه زهير فأحسن الرّدّ ناظرا من مقلة شوساء قد ملئت تيها و عُجبا فعرّفه قصدي و ألقى إليه رغبتي " .
- اذكر صفات المتنبّي .
- استخرج محسّنا بديعيّا من النّصّ .
- أعرب ما تحته خطّ في النّصّ .
- من صفات المتنبّي : أنّه متكبّر معجب بنفسه .
- من المحسّنات البديعيّة السّجع في قوله : " قضيب على كثيب " .
- عَمامَةٌ : مبتدأ مؤخّر وجوبا لأنّه نكرة خبره شبه جملة ، مرفوع و علامة رفعه الضّمّة المنوّنة الظّاهرة على آخره و هو موصوف .
حمراءُ : صفة مرفوعة و علامة رفعها الضّمّة الظّاهرة على آخرها غير المنوّنة لأنّها ممنوع من الصّرف .